صورة المرأة في الأدب والفن
مرت أسابيع وأنا أقرأ مذكرات سيلفيا شعرت وأنا أقرأها بشعور مُهيب، كيف لامرأة من القرن الماضي عاشت وماتت في قارة تبعد عني بعد المشرق عن المغرب، أن تفهم أفكاري ومخاوفي ومشاعري وكأنها تتلصّص علي من مكان وزمن مختلف لتكتب عني لا عنها! راودني ذات الشعور مع مذكرات سيمون "فتاة ملتزمة" ومع مذكرات إِليف شفق "حليب أسود" جميعها كانت مذكرات لنساء يختلفن معي باللغة والثقافة ونتباعد زمنياً ومكانياً لكن بطريقة ما أشعر أن هناك خيوط رفيعة تربطني بهم. يحدث الأمر ذاته حين أتفحص بشكل عشوائي حسابات بعض النساء التي تكون بعيدة عن الضجيج وأنوار الشهرة، من يتَّخِذن ركناً قصِيًّا ليكتبن فيه عن أنفسهن، فأجد نفسي بوسط تلك الكلمات، أفهم غضبهم ومخاوفهم، أشعر بحبهم وغيرتهم، أُدرك مقاومتهم لفقدان الأمل ومحاولاتهم العابثة لترميم الذات.
بعد الانتهاء من مذكراتها كتبت عنها بحسابي على تويتر، فنصحني أحد المتابعين بفيلم يحكي عنها، توجهت مباشرة لمتابعته لكن الصدمة أن الفيلم صنع نسخة واحد من سيلفيا النسخة الأسوأ، صورها كامرأة غيورة ناقمة غاضبة، تجاهل جميع صراعاتها، تجاهل رحلة محاولاتها لفهم ذاتها، قدمها للجمهور كامرأة مجنونة غيورة! تساءلت هل لو كانت سيلفيا على قيد الحياة ستشعر أن الفيلم يمثل جزء من حياتها؟
لم يكن فيلم سيلفيا هو الوحيد الذي اختزل حياتها في جانب واحد أو أخرجها بشكل قبيح لا يمت لها بِصِلَة، حدث ذات الأمر مع (هيدي لامار) شاهدت وثائقي عن حياتها، كان تركيزه الأكبر على جمالها وعلاقاتها الغرامية الفاشلة، أظهرها كدمية جميلة وتكلم بشكل سريع عن اختراعها الذي كان بالنسبة لها محور حياتها كما كان الشعر يمثل لسيلفيا محور حياتها. بحثت بعد الوثائقي عن هيدي وجدت لقاءات قديمة مسجلة لها، كانت تشعر بالخيبة لأن العالم لم يفهمها وتجاهل ذكائها وشكك بقدراتها الإبداعية ونظر فقط لوجهها الجميل، رفضت هيدي السيرة التي كتبت عنها خلال حياتها وشعرت أن تلك القصة لا تمثلها. هيدي وسيلفيا مجرد نموذجان لكمية النساء للآتي عبث بسيرهن وبذواتهن على أيدي غيرهم، لم تنقل حياتهم كما كانت بل تم تشويهها، نقلت بصورة مغايرة تتناسب مع ما يتطلبه المجتمع. بل إن الأمر امتد حتى للعالم الخيالي أو ربما عالم الخيال ليس إلا انعكاس للواقع، فالأفلام والروايات تكتب النساء وتشكلهم وَفقًا لسياق الثقافي.
ففي الأفلام والروايات الكلاسيكية كانت هناك صورة المرأة الساذجة بطريقة طفولية بريئة التي تحب التذلل وتعشق قيودها، تنتظر الرجل يوجهها بطريقة أبوية ويرشدها أخلاقياً، ولا قيمة لها إلا بوجود ذلك الرجل الذي يكون قاسي لا مبالي متسلط لا يهتم لمشاعرها ويتقمص دور الأب المرشد، كانت صورة لامرأة بعيدة عن ذاتها خاوية تمشي على حسب ما يخطط لها المجتمع. وبعد نقد النسوية لتلك الروايات الكلاسيكية انتقل العالم لإنتاج شخصية جديدة أكثر غرابة، فتجسدت المرأة في فتاة غريبة الأطوار بطريقة صبيانية، كسرت قواعد النموذج الأول لكن بطريقة حمقاء، مثلا تأكل بنهم بعشوائية لكن لا يتغير جسدها بمعجزة خيال الذكور! تحب الاهتمامات الذكورية لكن بطريقة أنثوية لتشبع رغبات صديقها، مختلفة عن جميع الفتيات فتلبس ملابس غريبة لتثبت ذلك الاختلاف المصطنع! تحاول أن تكون ذكية وعميقة لكن كل ما تقوله سطحي وغبي لا قيمة له، لا تملك أهداف واضحة لحياتها، دورها ينحصر بدعم البطل بالقصة فتسمع مشاكله وتحل عقده النفسية والجسدية تتحول إلى دور الأم فتضحي بنفسها أكثر مما ينبغي. والرجل يكون فاشل مكتئب منعزل عادي قبيح ينتظرها لتنقذه فتتطور شخصيته أما هي لا أهمية لشخصيتها. فيلم (Me before you) كان أكثر من صور ذلك النموذج.
بعد ذلك وصلنا إلى النموذج الأحدث للمرأة الخارقة التي صنعها العالم ليحاول إسكات النساء بدل من محاولة فهمهن. خلق صورة مبالغة غير إنسانية للمرأة، مثالية أقرب ما تكون إلى الإله، انتزع منها كل ما هو عادي، امرأة مستقلة من جميع النواحي، قوية بطريقة خرافية، ذكية بذكاء فوق المعدل البشري، جميلة بكل الأحوال، أنها لا تنتج أي شي حقيقي أو تنتج بلا تعب، لكن لا بد من التصفيق لها والاحتفاء حتى ولو كان ما تقدمه لا قيمة له. بالطبع متوسطات الذكاء وقليلات الجمال لا مكان لهم في تلك الصورة الخارقة، لو كان نيتشه على قيد الحياة ربما لشعر بالسعادة لصنع البشرية لنموذج الإنسان الأعلى أو ربما سينفجر غضباً.
أما الروايات والأفلام العربية فتضيف صورة أخرى حصرية لهم، امرأة خاصة لتفريغ نزوات كتّاب العرب، مثل رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" و "الحي اللاتيني" روايتين يحاول الكاتبين من خلالها تحقق انتصاراتهم الوهمية وتفوقهم على الغرب، من خلال الاغتصاب والتحرش بالنساء الغربيات ومعاشرتهم بلا مشاعر، فيشعر بالانتصار والتفوق العربي من خلال خيالاته في انتهاك جسد امرأة غربية!
مشكلتي مع ذلك العالم الخيالي أنه كان يصيبني بالحيرة لماذا أجد ذاتي بسهولة بين كلمات النساء في سيرهم التي يكتبونها، وفي أصواتهم وقصصهم الحقيقة التي تروى مباشرة عنهم أما ذلك العالم الخيالي لا أنتمي له! كل تلك الخيالات التي تكتب تشكل هوّة سحيقة، تفرغ ذات المرأة من معناها، تسلبها حرية فهم وجودها، تجعلها تشكك بحقيقة مشاعرها ورغباتها، وتَمتَثِل مرغمة لما هو مرسوم مسبقاً. وحين تحاول امرأة الانشقاق عن تلك التصورات المسبقة المتراكمة، وتعبر عن ذاتها بعيدة عنها، تشعر بأنها مهددة وكأنها في حقل من الألغام وفي أي لحظة ستنفجر عليها القنابل بمجرد أن يخالف قولها تصوراتهم.
بعد كل ذلك تجد من يقول "لا نفهم النساء" لكن هل هناك من تساءل هل نحن نمنح النساء حق الحديث عن ذواتهم؟ هل حقاً نستمع لم يقولون دون تَحرِيف؟ أم نخوض النقاشات معهم لنفرض بالقوة والسلطة تصوراتنا المسبقة عليهن ثم نحاكمهم على تلك الصور التي كانت من صنع مخيلتنا؟ أتساءل هل واجه (homo sapiens) ما نواجه اليوم أو كانوا يستطيعون فهم بعض مباشرة؟ هل تلك التراكمات هي ما أنتجت صعوبة فهمنا لبعض؟ هل حين نزيل غبار تلك التراكمات سنصل لفهم ذواتنا وفهم الآخرين؟
تعليقات
إرسال تعليق