بقعة سوداء عالقة في الذاكرة




         يحترق جسدك داخل مكان مغلق ولا يوجد إلا باب واحد للخروج، يقف أمام الباب رجل مجنون لا يتزحزح عن مكانه يحاول إبقائك داخل النيران، بحجة أنك لا ترتدي "قبعة"! وحين تقاوم وتحاول الهروب من الموت يقف لك بالمرصاد ويدفعك للجحيم لتعود وتحترق لأجل قطعة قماش يقدسها أكثر من روحك، ويعتبرها بطاقة عبورك ونجاتك من الموت، وأي محاولة إنسانية خارجية تقترب لمساعدتك تُعتبر إثم وجريمة في دستوره، تشاهد من معك بالداخل يختنقون ويذوبون وسط النيران كأوراق متطايرة، تصاب بالذعر فترمي بنفسك من النافذة للنجاة، يقف الجميع في الخارج صمٌ بكمٌ غير مبالين لاستغاثاتك وصرخاتك، وقبل أن ترتطم بالأرض تسمع هتافات الحمقى "ليحترق ولا تسقط عن رأسه القبعة المقدسة" تلاقي حتفك لأجل أن تحافظ على قداسة أفكارهم الملوثة بالدماء.

     

     هذا ما حدث في عام 2002 لمدرسة المتوسطة للبنات في مكة، قتلت خمسة عشرة طالبة وأصيبت خمسين أخريات تتراوح أعمارهن بين الثانية عشرة والسابعة عشرة، بسب حريق كان من الممكن إنقاذهم، لكنهم أُجبروا على البقاء داخل المدرسة المشتعلة ولم يسمحوا لهن بالمغادرة لأنهن لا يرتدين الحجاب، ومنع والإسعاف من الدخول إلى المدرسة لأنه لا يجوز للفتيات أن ينكشفوا أمام أغراب، طردوا أولياء الأمور من الدخول لإنقاذ صغيراتهم. لا يمكن لأي عقل يتصور مدى الألم والعجز الذي شعر به الأب وهو يرى طفلته تحترق بالداخل لأن هناك شخص مجنون قرر أن قطعة قماش سوداء تحمل قيمة أهم من روح طفلته!

الحادثة كانت اشبه بالفاجعة يحاول تاريخنا تناسيها أو اسقاطها عمداً، لكنها ستبقى بقعة سوداء عالقة في الذاكرة الجمعية ودليلاً صريح على الانتهاكات التي حدثت بحق النساء. لم تكن تلك الحادثة الوحيدة من نوعها، هناك الكثير منها التي أزهقت أرواح عديدة من الفتيات في مختلف المناطق بسبب الأنظمة القديمة التي كانت تمنع دخول المُسعفين إلى المباني المخصصة للنساء، أو تتطلب وجود محرم قبل نقل مريضة إلى المستشفى، "كان ملك الموت سيقرر الإلتزام والإنتظار حتى يحضر المحرم المبجل ثم يقرر"! كانت حادثة آمنة في 2014 آخر تلك الحوادث قبل تعديل القانون لينهي مأساة موت الفتيات في المدارس والجامعات.

تغيّر القوانين و تغيّر المباني خطوة إيجابية ومهمة، لكن ماذا عن تغير الأفكار التي أنتجت تلك الأفعال الإجرامية ضد النساء؟ ماذا لو لم توجد فكرة المرأة عورة تتوارى عن أنظار الرجال، والنساء فتنة، وما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما؟!

تلك الأفكار وغيرها هي من حولت مفهوم الإنقاذ والعمل الإنساني النبيل إلى تفكير مريض، حصر قيمة المرأة في جسدها، حتى وهي تحتضر ينظر لها بشهوة!

   هدفي من استرجاع الماضي ليس اتهام الأشخاص ولا لتصحيح ما حدث، فلقد تم محاسبتهم وتم تعديل القوانين، الهدف هنا هو النظر للأفكار التي تسببت في تفاقم تلك المأساة والتي من الممكن أن تعود وتنتج نفسها بشكل أخر. إن خطر تلك الأفكار أشبه بالفيروسات تنتقل بسرعة و تنتشر ، وتستمر بإعادة أنتاج نفسها بطرق مختلفة، وحين يصادف الفايروس بيئة حاضنة له ينتشر بشكل أسرع وعلى مساحة أوسع، وبيئتنا بيئة خصبة حاضنة للأفكار الملوثة، بيئة قائمة على هدر إنسانية المرأة وسلب هويتها، فلا يزال وأد النساء في الوطن العربي قائماً وبطرق مختلفة فتقتل النساء بإسم التقاليد والعادات أو تقتل بشكل أشنع فتسلب حياتها وهي على قيد الحياة "حياة مع وقف التنفيذ". ولنا أن نتساءل بعد ذلك كيف من الممكن تغير مجتمع قائم على فكرة تشييء المرأة إذا كنا فقط نتعامل مع الأمور بسطحية ونتجاهل ما يحدث بالعمق!


 "لا تقتل البعوض إنما جفف المستنقعات".

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

البرمجة منتج نسائي استحوذ عليه الرجال

تأملات في الذكاء الاصطناعي

الأسباب الغائبة

أشلاء

هي ...

الأمومة الموحشة

استبداد الذكورية على الرجال