أشلاء
رفعت رأسها قليلًا بعينين مثقلتين يشقّ عليها فتحهما، نظرت والألم يثقل جفنها، فإذ بشخص غريب بمعطف أبيض وشعر أسود يتخلله بعض البياض يجلس أمام سريرها الذي يكاد غطاؤه ينزلق عنها، فقالت في نفسها: "إنني أهذي، ليس ما أراه حقيقيًّا"، فأغلقت عينيها لعله يتبدد كخيط دخان في السماء.
عاد صوته الثقيل يتدفق بالمكان ويخترق مسامعها، بدا لها صوتًا مثيرًا لكنه غير مألوف، ففكرت: "هذا صوت غير مألوف، و هلاوسي لا تجلب لي إلا من تألفهم نفسي، ربما لأول مرة تصيب حواسي وتخيب هلاوسي"، فتحت عينيها للتأكد أنه لم يكن حلمًا أو نوبةً من نوبات هلاوسها المعتادة.
نظر إليها الطبيب مبتسمًا وقال: "الحمد لله على سلامتك".
قالت بنفسها: "ما الذي حدث لي؟"، نظرت إلى معصمها الذي يلتف حوله الشاش وكأنه يعانقه، فتذكرت أرضية حمامها الباردة التي تشكلت بدمائها الدافئة، تذكرت مرآة الحمام التي نظرت إليها بتمعن قبل أن تودعها، تذكرت قطع ملابسها التي قررت أن تتحرر منها للأبد، تذكرت لمعان الشفرة الذي تلألأ على سطح الماء.
قاطع صوته جلسة استحضارها للذكريات وقال:
- يبدو أن سؤالي مزعج، لكن لابد أن أعرف السبب الذي جعل معصمك يطوقه الشاش؟
- أجابت: محاولة فاشلة لرسم خطوط متوازية.
نظر إليها بشيء من التعجب، وقال:
- إن كنتِ تنوين الرسم، فلماذا استخدمتِ الشفرة عوضًا عن القلم؟
- لتتحول الخطوط إلى ثقوب، و تتسرب حياتي المملة منها.
اعتدل بجلسته واقترب قليلًا نحوها وقال :
- هل كنتِ تحاولين الانتحار؟
-لا، بل أُعيد الجسد لأصحابه.
حاول أن يكتم اِنزعاجه الذي بدأ يغزو ملامحه من إجاباتها المُبهمة، وقال بهدوء:
- من هم؟
- لا أعلم، كنتُ يافعة عندما جمعتُ أشلائي، لكن من غير المنطقي أن يبقى جسد بهذا الجمال وسط الحضيض.
قال في نفسه: " ومن غير المنطقي أيضا أن يحكم هذا الجمال النفيس عقلًا ملتاثًا"، ثم نظر إليها وقال بصوت يحمل سحنة الرقة:
- كيف وصلتِ إلى الحضيض؟
- لم أصل إليه، بل وُلِدتُ فيه.
- ألا تريدين الخروج منه؟
- إنه ليس بهذا السوء، فالبشر فيه أكثر وضوحًا، يمارسون حيونتَهم في العلن، يتبادلون اِنعدام الثقة كما يتبادلون التحية، يتطهرون من الفضائل كل صباح، وفي المساء يتفاخرون بالرذائل.
تابعت: ربما ستزعجك رائحة المجاري التي تطوق المكان، ورائحة الجثث المتعفنة التي تفيض بالطرقات، لكن لا عليك، ستعتاد حتى تفقد الإحساس بكل ما هو جميل.
أخذ نفسًا عميقًا وأشعل سيجارة، وقال:
- أخبريني كيف جمعتِ أشلاءكِ إذن؟
- لا تشعلها، رائحتها تصيبني بالغثيان، تذكرني بساعات العمل المنهكة في بواكير صباي.
بدأ يشعر بشيء من الانزعاج من مراوغتها، أطفأ السيجارة وهو يقول:
- حسنًا، وما الذي كُنتِ تفعلينه في ذلك الوقت؟
- أبي كان جامع أدمغة، يخرج كل صباح ليصطاد لنا عقلًا مستطابًا من بين الجثث الفاسدة، وعند عودته يبدأ بتحضير عملية الاستئصال، فيضع إصبعيه السبابة والوسطى في محجري العينين، وراحة يده على الجبين، ثم يضغط العينين بقوة فيندفع البؤبؤ متدحرجًا للخارج -كنت أنظر إليه وهو يتدحرج وأحصيه وأصنّفه بحسب ألوانه-، بعد ذلك يشد الفك العلويّ إلى الأعلى، وباليد الأخرى يسحب الفك السفليّ للأسفل فينفتق الرأس إلى نصفين، الجزء السفلي لا قيمة له فيرمى به إلى الكلاب، أما الجزء العلوي ففيه الجوهر كما كان يقول، يحمله برفق فيضعه على مكتبه، يتأمله متفحصًا إياه قبل أن يدخل يده كاملة بعد أن كسر الجمجمة، ويعصره كما تُعصر البرتقالة الذابلة، فيتحول بين يديه إلى صلصال يشكله كيفما يشاء، وينهي عمله بمزجه مع بقية العقول السابقة التي يحتفظ بها في خزانة يُحظر علينا الاقتراب منها.
في المساء، تتكدس الجثث التي عبث بها عند باب مكتبه، فتشعر أمي بالرأفة على حالهم، فقد كانت مُهيأةً للحب والأمومة، تفيض بها حتى على الوحوش والجثث. فتبدأ برتق الأجزاء المتبقية من الجثث، تقضي الليل وهي تحيك لهم أفئدة جديدة لعلهم يعودون إلى الحياة، فلطالما آمنت بأن الأرواح تنمو من القلوب كما تنمو الأشجار من البذور.
ربما يبدو لك أنهما عاشا كنقيضين، لكنهما كانا مكملّين لبعضهما البعض، هو يحدث الفوضى وهي تعيد النظام، هو ينزع وهي تمنح، هو يأخذ وهي تعطي، هو يميت وهي تحيي.
من المؤسف أنهما أهدرا حياتهما لآخرها على ذلك الهراء، أتذكر أن التعب أنهك أبي، فصوّب مسدسه باتجاه رأسه فخرج عقله بطريقة لم يخرج بها عقل من قبل، أما أمي فقد قضت بقية أيامها تحاول أن تحيك له قلبًا جديدًا حتى نفدت خيوطها ووهنت.
في ذلك الوقت كنُتُ أُكلّف بالتخلص من كل الأجزاء التي لا قيمة لها في الجثث، وفي المقابل سأُمنَحُ أي جزء اخترتُه ليصبح جزءًا من جسدي، بدت لي فكرة أن أملك جسدًا واحدًا، لكنه -في الوقت نفسه- ليس بواحد فكرة مغرية.
فتحركت وفق غرائزي كقطط الشوارع، أضع رأسي داخل النتانة المظلمة لألتقط ما هو جيد، مع الوقت اكتسبت مهارة نبش أكوام القبح والبشاعة واستخراج الجمال النادر منها، عملت بجد في البحث عن قطع بديلة لأجزاء جسدي وسط جثث بلا أدمغة و بأفئدة مرقعة، حتى حصلت على عينين توجبان الخشوع، وشفاه تضرم الجوع، و خصرٍ أمام اِعوجاجه تتدافع الحشود، ونهدين يحث ارتكازهما على السجود، امتلكت جسدًا يثير الشهوة والارتباك لكل من رآه.
قال بصوت متعاطف يشوبه الاشمئزاز:
- من المؤسف أنكِ مررتِ بكل هذا.
- لمَ الأسف؟! كنت محظوظة في امتلاك فرصة لم يمتلكها أحد، كان لدي مخازن كبيرة من قطع الغيار الجسدي، تُمكِّنني من تشكيل جسدي كما أشاء.
استطردت قائلةً: أو ربما تأسف لأنني أنحدر من تلك العائلات التعيسة التي لا يخرج منها في -نظركم- إلا أجيالاً وأجيالاً من الشياطين المتتالية، المؤسف حقًا أن عقول الأطباء أحادية التفكير، وهي تحجب عنهم إدراك حقيقة أن العائلات السعيدة لن تدرّ عليهم بالأموال.
لو عاش جميع الأطفال في أسر سعيدة فلن تنتج الأمراض، ولن تكسر القوانين، ولن ترتكب المحرمات، ولن يكون هناك حاجة للقوانين، ولا للأطباء، ولا للمحامين، ولا للقضاة.
قال منفعلًا:
- ما الذي تظنين أنك حصلتِ عليه من حياة كهذه؟!
- أترى تلك النظرة المحمومة التي تسكن عينيك منذ أن وقعت على جسدي؟! إنها تسكن كل الأعين التي قضضت مضاجعهم بطيفي، وهذا ما منحني إياه الوجه الجميل.
أعطتني سلطة الجمال، سلطة تجعل الجميع ينسى أنني قادمة من الحضيض، فتنهار أمامي الأسوار، وتشرع لي الأبواب، وتغفر لي كل المآثم والخطايا.
شعر بشيء من الخجل والارتباك وأشاح بنظره عن السرير، فقالت:
- لا تبعد ناظريك، ففيهما بريق يهبني متعة خبيثة تختلج نفسي، وتخبرني بما يستطيع وجهي فعله بالآخرين.
- بحزم قال: ألا تظني أن هذه مغالاة في حب الذات وتقديس الجسد على النفس؟
- عندما لا نحب ذواتنا تخبروننا باعتباركم أطباءً أنه يتوجب علينا حب الذات، وحينما نحبها تصفوننا بالمغالاة!
تابعت: ما هي نسبة حب الذات المناسبة التي ينبغي عليّ ألا أتجاوزها؟ وهل هناك أدوية خافضة لحب الذات تُعطى لمن يعاني من ارتفاع الحب؟!
ربما نبدو لكم محاليلًا لا بشرًا، تصنعونها بنسب محددة ومدروسة، وإن لم تتم بالشكل المطلوب تُتلف في المصحات.
قال بانزعاج وغضب:
- أخبريني بربك، إذا كنتِ تحبين هذا الجسد كما تدّعين، فلمَ حاولتِ تمزيقه؟!
-لا أحبه، أحب القوة التي يغدقها علي. وكما قلت لك، هذا الفائض من الجمال لا يتناسب مع الحضيض، عليّ أن أعيده إلى صورته الأولى لمّا كان أشلاءً، فيأخذه السائلون والعابرون؛ فليس عدلًا أن ينعم المرء بالغزارة والثراء ومن حوله يُخيم الفقر والقحط.
تعليقات
إرسال تعليق