هي ...

 



أراقب من بعيد وبهدوء، ثم أختار من يرتقي ليكون الأنِيس لوحدتي، هكذا اصطفيت جلّ صداقاتي وعلاقاتي، إلاّ هي. هي من لعبت دور الإله بدلاً عني، هي من اصطفتني دون العالمين.

لا أتذكر لحظة لقائنا الأول، لكنها لا تنفك عن تذكري بتلك اللحظة وكيف لا تزال محفورةً بأدق تفاصيلها في ذاكرتها، تتفاخر بسردها أمام كل عابر وغريب. و كلما سردت تلك اللحظة السرمدية، توهجت عيناها ابتهاجًا لم تَذوي السنين وهّجه.

بحسب روايتها، اختارت أن أكون صديقتها منذ اليوم الأول الذي دخلنا فيه مدرسة المتوسطة كطالبات جديدات، وقفت عند الباب مذعورة، بوجه شاحب وخطى مرتابة، بجانبي أمي التي تحمل ملفًا أخضر كبيرًا. تقول: "لفت نظري كيف لم تكوني تلبسين عباية! نظرت إليك وإلى نفسي، كنا نحمل نفس الاسم وبنفس العمر وبنفس الطول، فلماذا كنت ألتف بالسواد أما أنتِ فلا؟ تفحصت بإعجاب فستانك القصير، وشعرك المسرح بعناية، وحلمت كل ليلة أن أملك ذاك الفستان." - تخرجنا من الجامعة وهي لا تزال تذكر لي ذلك الفستان الذي لا أتذكره، ولا أعلم لما رسخ بقوة أحفوريّة بذاكرتها - في هذه اللحظة ابتدأ كل شيء بالنسبة لها.

في الصف، جلست في المقعد الذي أمامها، اقتربت مني بضحكة شيطانيّة خفيّة وهمست في أذني: "انظري للمعلمة، تلبس صدرية عريضة كالجدات!" جحظت عيناي وسمعتها بذهول! فأمي كانت من الأمهات اللواتي لا يتحدثن حول تلك الموضوعات، ولا يسمح لنا بالحديث عنها بصوت مسموع. شعرت أن عالماً جديداً تكشف أمامي عبر كلماتها الساخرة.

استمرت لأيام تغرق أذني بنميمة لذيذة وسيل من الأسرار، فتارة عن فتاة مقززة، وتارة عن معلمة بلهاء، وأنا لأول مرة أتذوق لذة ما يسمى بالحش.


لم أكن مثلها، فأنا على النقيض غارقة بذاتي وأسحب بهدوء العالم نحوي. أما هي، فكان كل ما في داخلها يثور ويتأجج ليمتد إلى العالم. كنت متجذرة وأوثق صلة بالواقع، أما هي فحالمة بين الغيوم والأحلام. وكل تلك الاختلافات مع مرور الوقت ستصب في منبع تلاحمنا.

في حصة من حصص الفراغ، وأنا منكبة أصهر شعوري على أوراقي، اقتربت لتحاول أن ترى ما أكتب، فشعرت بأنّ خصوصيتي انتهكت، فأدركت أنني ممن يقيم أسواراً حول ذاته، فقالت متداركة: "حتى أنا أحب الكتابة مثلك." فأحضرت مذكرتها وبدأت تطلعني على ما كتبت دون أن أطلب منها، وكأنها تقول لي: "اطمئني ها هي ذاتي مصلوبة أمامك لتتطهر من ذنب التطفل." أحسست بالارتياح من قدرتها على تعريّة روحها أمامي بلا ارتياب. ثم بدأت تحدثني عن الكتب، فشعرت لأول مرة بوجود شخص في هذا العالم يشاطرني حب الكتب والكتابة.

ومن هنا بدأ كل شيء بالنسبة لي، أما بالنسبة لها فقد بدأ كل شيء منذ زمن بعيد، منذ الأزل، منذ لحظة التقت فيها أرواحنا يوم ميلادنا كما تقول لي دائماً.

بدأ فصل جديد من حياتي، رحلة مغريّة من تبادل الكتب والأسرار، فتناقلنا سراً كتباً محرمة، روايات رخيصة، مجلات مبتذلة، دواوين شعرية تشبه الطلاسم.

ومنذ تلك اللحظة يدي بيدها في كل عالم جديد ندخله. لم أملك جرأتها للمغامرة، لكن أملك الشجاعة للاستمرار، فاعتمدت عليها لإشعال نقطة الانطلاق، واعتمدت علي لإكمال الطريق.


عشنا سذاجة الحب الأول، واعتقدنا أننا وجدنا فرسان أحلامنا وتوجناهم على قلوبنا، حلمنا أن ما كنا نقرأه في الروايات الرخيصة ليلاً سيتحقق أخيراً في وضح النهار. 

كانت كعصفورة حالمة تدخل قلوب الناس بسهولة فتقع في مصائدهم، أما أنا فحصوني منيعة يصعب اختراقها، لذا تكفلت بحمايتي من تطفلات البشر، وأنا بحماية قلبها من انكسارات الحب، فكنت كدرع حَانّي لها وهي شعلة مضيئة لي.

تعرضنا لكسور القلب والخذلان، جبرنا كسورنا ونفضنا أغبرة الوهن والوله عن بعضنا، عبرنا عتبات الحياة بخطى ثابتة تتخللها العثرات، و أيقنّا أن الجميع يذهبون ويعودون إلا نحن ملاذاً أبدياً لبعضنا.


دخلنا نفس الجامعة، ورغم اختلاف تخصصاتنا وابتعاد كلياتنا عن بعض إلا أننا حاولنا إيجاد الوقت للخروج معاً، ومشاركة مغامرة الخروج من الجامعة والضياع بشوارع المدينة التي لم نراها من قبل، نحن الطفلتان اللتان لم نتجاوز حدود حينا لوحدنا، الآن نجوب شوارع الرياض بكل حرية، اكتشفنا أن هناك ما هو أجمل من الشعر والروايات، انغمسنا بدهشة العالم واكتشاف ذواتنا عبره، اعتقدنا بحماقة الصبا أن أجنحتنا نمت واشتدت وحلقنا للأبد، لكن سرعان ما تبخر الحلم ودهست متاعب الحياة صدورنا واختطفت أحلامنا.


ففي أول ليلة مع زوجها هرعت لتتصل بي باكيةً يلفها شعور الغربة من وجود رجل لا تعرفه ينام بجانبها، رجل لا يشبه أبطال رواياتنا ولا فرسان مغامرتنا. بكت الطفلة الكامنة بداخلها وبكيت معها وأنا ألعن الحياة التي تجبرنا على عبور طرقات لطالما تحاشينا الاقتراب منها.

في يوم ولادتها بمولودتها الأولى بكيت أمام غرفة الولادة خوفاً عليها، وحينما حملت طفلتها بين يدي أحسست أنّ قطعة من قلبها تتحرك بين يدي، شعرت بالارتياح لأنها استطاعت أن تمدّ ما بداخلها للوجود. 

يوم وفاة أبي، بكت معي بحرقة وكأن مشاعر الفقد قسمت بيننا، بقيت موجودة بقربي لأيام وأيام، وكأنها تتطمئن قلبي المنفطر أنها لا تزال تجلس بجواري كما كنا في المدرسة.

وحينما طرق الحب باب قلبي، أخبرتها أنني سأتزوج من أحببت، رقصت فرحًا وقالت: "يكفي أن قلب إحدانا حُقّ له الاختيار."


صديقة الطفولة والصبا والمشيب، تشاركت معها كل شيء حتى الاسم وتاريخ الميلاد، وكأن القدر اقسم أن يقسم كل شيء بيننا منذ يوم ولادتنا.

اليوم همست لي سرًا -كعادتها في همس الأسرار- أنها لم تختَر شيئًا في حياتها؛ فمنذ طفولتها، أمها اختارت لها ملابسها وطريقة حديثها، واختار والدها تخصصها وزوجها، واختار زوجها أسماء أطفالها، لم تختَر شيئًا في هذا العالم سواِي، وكنت أصوب خياراتها.

أما أنا، فقد اخترت كل شيء في حياتي: تخصصي، دراستي، وظيفتي، وزوجي إلا هي، هي من اختارتني، وأنا قبلت بهذا القدر الجميل بكل حب.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

البرمجة منتج نسائي استحوذ عليه الرجال

تأملات في الذكاء الاصطناعي

الأسباب الغائبة

أشلاء

الأمومة الموحشة

استبداد الذكورية على الرجال