الأسباب الغائبة

 

     

   كان ينبغي علي قبل الكتابة أن أقيد أشباح ذكرياتي حتى يتسنى لي الحديث بشكل موضوعي، و كان لابد أن أخمد كل مشاعر الغضب والألم بداخلي، لكن عوضًا عن ذلك استحضرت أشباحي ودموعي لترافقني طوال رحلة الكتابة، فلم أرغب بأنّ اقف بمعزل عن الضحايا وأنا جزء منهم، أعرف مقدار الألم والخوف والرعب الذي يسكن بداخل كل امرأة تعرضت للتحرش الجنسي جراء تكذيبها أو ترهيبها أو تهديدها، أعرف أن هناك الكثيرات ممن تعرّضن لتحرّش و التزمن الصمت بسبب الخوف، وأعلم أن الأمر لن يُنتزع بشكل جذري بمجرد سَنّ القوانين، فالتحرّش الجنسي ليس شيئًا يحدث فقط بسبب رغبة عابرة يمكن إيقافها بشكل مباشر وسطحي، بل فعل ينطوي بداخله تاريخ طويل من التراكمات لاحتقار وإذلال المرأة مدفوعٌ باختلال القوة وانعدام المساواة بين الجنسين.


      ربما يظن البعض أنه نوع من المبالغة حين تصرح بعض النساء أن جميعهن قد تعرضن لمحاولاتٍ عديدة من قبل الرجال لانتهاك اجسادهن واختراق خصوصياتهن، ولكن يصبح الأمر مفهومٌ بالنظر إلى طبيعة العلاقات لدينا التي لا تزال تدار بأسلوب "الطريدة والصياد" أو بالنظر إلى كيفية تعاطي المجتمع مع قضايا التحرّش، ربما يتعاطف البعض لساعات ويشارك بتغريدة ثم يتابع حياته وكأن شيئاً لم يكن، وآخرون -وهم الأغلبية- يبرعون بنسج تبريراتهم الواهية و الرّعناء، و التي تمتلكني رغبة عند سماعها بالبصق بوجه كل من قالها ونقلها. 


لا أرغب بإقامة مناحة وليس المطلوب الشعور بالحزن والكآبة بل الاقرار بإنّ ثقافتنا بيئة حاضنة للتحرش، وأنّ مجتمعنا يتعامل مع قضايا التحرش الجنسي وكأنها قضايا تخص النساء وملابس النساء وأماكن تواجد النساء، بينما يتعمدون تغيب للطرف الأساسي في المشكلة "الرجل"، مما يجعلهم يشعرون بالارتياح وبأنها مشكلة تعني النساء لا تعنيهم بالرغم أنهم هم العنصر الجاني في القضية.


      بالعادة أنا لا الجأ إلى توضيح المفاهيم لثقتي بأنّ غالبية المواضيع التي اكتب عنها تكون معروفة سلفًا لدى شريحة كبيرة من قرائي، لكن هنا سألجأ إلى توضيح معنى التحرّش الجنسي وطرقه ودوافعه وأسبابه، لأن الكثير يعتقد أن لا فرق بين التحرّش الجنسي والغزل سوى رغبة المرأة ومزاجها للتفريق بينهم. 


عرّفت "اليونيسيف " التحرّش الجنسي "بأنه أي مبادرة جنسية غير مرغوب فيها أو طلب خدمات جنسية، أو فعل لفظي أو جسدي أو إيماءة ذات طابع جنسي، أو أي سلوك آخر ذي طابع جنسي يتوقع أو يُتصور، بشكل معقول، أن يتسبب في شعور شخص آخر بالإهانة والإذلال عند تداخل هذا التصرف مع العمل أو عند جعله شرطاً للتوظيف أو أن يخلق بيئة ذات طابع ترهيبي أو عدائي أو تهجمي". كما تناولت الاستغلال والانتهاك الجنسيين على أنهما يشيران إلى "أي إساءة استغلال فعلية أو محاولة إساءة استغلال حالة ضعف للتفاوت في النفوذ أو للثقة من أجل تحقيق مآرب جنسية، ويعني الانتهاك الجنسي التعدي بالفعل أو التهديد بالتعدي البدني الذي يحمل طابعاً جنسياً، سواء باستعمال القوة أو في ظل ظروف غير متكافئة أو قسرية".


       في الغالب يتم تصوير التحرّش الجنسي على أنه فعل لا يصدر سوى من الغرباء ولا يحدث إلا في الشوارع، لكن ذلك التصور يخفي جزء كبير من الحقيقة، فالتحرّش الجنسي قد يحدث في أي مكان؛ سواء في الأماكن العامة أو الخاصة، مثل: أماكن العمل، المدارس، الجامعات، المطاعم، المقاهي، الأسواق التجارية، وحتى داخل المنازل، عبر الإنترنت. والمتحرّش قد يكون شخصًا غريبًا عنك مجرد عابر بالشارع لا تربطك به أي صلة أو معرفة، أو قد يكون دخل بيئة عملك كمدير، أو أحد الموظفين، أو أحد العملاء والزبائن، وأيضا قد يكون ضمن دائرتك الاجتماعية القريبة فيكون أحد أفراد العائلة (الأقارب من الدرجة الأولى) أحد معارف العائلة أو من الجيران.


طرق التحرّش 

     بعض طرق التحرّش الجنسي تم تطبيعها في مجتمعاتنا العربية حتى أصبحت تعتبر سلوكيات معتادة لغرض التعارف، الأدهى أن بعض النساء تقع ضحية للاستغلال والابتزاز والتضليل والتلاعب لكن لا تعتبر تلك الإساءات التي تعرضت لها انتهاك جنسي يجب إيقافه مثل: 

        النظر المتفحّص والتحديق بشكل غير لائق إلى الجسم.

        عمل أي نوع من التعبيرات بالوجه تحمل دلالات على نوايا سيئة.

        الإشارة باليد بإشارات تحمل دلالات جنسية.

        إصدار أصوات ذات الإيحاءات الجنسية كالتصفير.

        إبداء ملاحظات وتعليقات جنسية حول الجسد أو طريقة المشي أو الصوت.

        إلقاء النكات أو الحكايات الجنسية. 

        الملاحقة والتتبع لعدد من المرات أو حتى لمرة واحدة سواء كان مشيًا بالأقدام أو السيارة.

        الإلحاح على طلب الرقم أو السناب أو غيره من برامج التواصل.  لإتصال .

        السعي وراء اتصال غير مرحب به والاجبار على التعارف.

        طرح اقتراحات وعروض تحمل طابعاً جنسياً بشكل ضمني أو علني.

        تقديم هدايا تحمل إيحاءات جنسية.

        المقايضة الجنسية مقابل أداء أعمال أو غير ذلك من الفوائد والخدمات. 

        الاتصال الجسدي غير المرغوب به كاللمس، التحسس، النغز، الحك، الإمساك، الشدّ، الاقتراب بشكل كبير والالتصاق بالجسد.

        التهديد بأي نوع من أنوع التحرّش الجنسي أو التهديد بالاعتداء الجسدي القسري بما فيه التهديد بالاغتصاب.


دوافع المتحرش

   غالبًا يتم حصر دوافع المتحرشين بدوافع اجتماعية وإسقاط الدافع الجنسي بالرغم أن التحرّش الجنسي في جوهره رغبة جنسية، وإنكار تلك الرغبة ودوافعها لن يساعد بانتزاع جذر المشكلة بل سيجعلنا نركز على عامل واحد وينصب جُل تركيزنا عليه ونسقط بقية العوامل ونتجاهل آثارها.

بعض الرجل يكون دافعهم من التحرّش رغبة جنسية بحتة، هذا النوع من الرجال بالغالب يتمتعون بتقدير متدني لذواتهم ، وقد يكون تعرض لرفض مستمر من قبل العديد من النساء، أو ربما يكون شخص غير مرغوب جنسيًا لأسباب متعددة تتعلق بمظهره وسلوكه أو سوء أخلاقه أو حتى وضعه الاقتصادي أو الاجتماعي،  لذلك يرى أن لا سبيل له للحصول على الجنس إلا من خلال فرض نفسه بالقوة على النساء وإجبارهن على التواصل الجنسي معه دون موافقتهن.

النوع الأخر من التحرّش الجنسي غالبًا يصدر من رجال ذو سلطة أو مكانة (المدراء مثلاً)، ويظهر عادة في بيئات العمل، وكذلك يظهر في التحرّشات الجماعية في الأماكن العامة والتي أصبحت تحدث بشكل موسمي وسنوي مع كل مناسبة. يتوهم بعض الرجال بأن الأماكن العامة وبيئات العمل ملكية خاصة تعود للذكور، وأي امرأة تتجاوز الحدود ينظر إليها كدخيلة تشكل خطر عليهم، وتحاول احتلال المواقع التي اعتادوا امتلاكها، وبما أن الرجل ذو نزعة عدوانية فهو يتعامل مع كل تهديد يواجه بالعنف لردعه، لكن في تلك الحالة لا يستطيع استخدام العنف الجسدي مع امرأة غريبة عنه – يمنعه القانون أو العادات المجتمعية - فيعمد لاستخدام العنف الجنسي (التحرّش) لتأكيد سلطته على المكان وإهانتها لإشعارها بأنها لا تنتمي للمكان، وإجبارها على المغادرة، فالتحرّش الجنسي في هذه الحالة يعد صراع حول السلطة أكثر من كونه ممارسة تدفعها الرغبة الجنسية البحتة كما في الحالة السابقة. 

تلك النزعة العدوانية لدى الرجل ربما يعلّل البعض وجودها بالسبب البيولوجي وأنها شيء لا يمكن التعامل معه، لكن حين ننظر إلى أمور مثل العنصرية العرقية والنزاعات السياسية والاقتصادية وغيرها نجد تلك النزعة اختفت عن الوجود وكأنها لم تكن، نرى نجاح المؤسسات كافة بترويض رجل الكهف العنيف الذي يسكن دواخلهم، لكن حين يصل الموضوع إلى المرأة يتم احتضان تلك النزعة المنحرفة وجعلها أمر طبيعي لا مفر منه ولا يمكن كبحه!

هناك أيضا أنواع من التحرّش ليس دوافعها جنسية أو سلطة، فالبعض يتحرش بالنساء لأجل رجال آخرين . حيث  يسعى بعضهم لإذلال المرأة - أو حتى رجل أخر - حتى يشعر بالتفوق أمام أقرانه، ويكسب احترامهم وودهم أو حتى يثبت لهم فحولته وقوته (لارتباط القوة بالفحولة)، والبعض يتحرش بالمرأة لأجل الانتقام من رجل أخر، يحدث بشكل أكثر بالبلدان العربية والإسلامية التي تعتبر المرأة من ضمن ملكيات الرجال،  فيتم التحرّش الجنسي بنساء اعدائه أو من يعتبرهم خصم له، وذلك النوع من الانتقام سببه نظرتهم الدونيّة للمرأة، والتعامل معها كجزء تابع لرجل وأنها ليست إلا طرف مفعولاً فيه أو به أو معه. 


أسباب التحرّش الجنسي

1-      التلاعب التاريخي بالمفاهيم: 

      التحرّش الجنسي ليس ظاهرة معاصرة أو نتيجة للتغيرات الاجتماعية الحديثة كما يحاول أن يلمح البعض، فالاعتداءات الجنسية كانت تحدث منذ الازل، وكان يتم إسكات النساء وتخويفهن واقناعهن بأنه أمر طبيعي ومقبول، بل تطرف البعض في تجميل تلك الجرائم من خلال محاولة إقناع النساء أنه من طرق التعارف والحب.  فالذي اختلف اليوم هو طريقة تعاطي النساء مع تلك التجاوزات، فما كان يصمت عنه النساء في السابق أصبح اليوم مرفوضًا تماماً. 

     لا أريد العودة إلى ما قبل 100 سنة واسقط مفاهيم العصر على تلك الحقبة، فقط أريد العودة إلى ما قبل 20 سنة أو أقرب من ذلك، قبل 15 سنة في تلك الحقبة كانت التحرّشات تحدث بشكل مكثف ويومي في الشوارع والأسواق، لكن لم تكن تذكر بشكل صريح، كان هناك نوع من الخداع والتلاعب بالمفاهيم، وتغليف تلك الاعتداءات بمسميات مخففة وبعيدة كل البعد عن مضمون الفعل، فكانت تسمى "مغازلجية" "الترقيم" .. الخ لجعلها مقبول في أذهان الناس وتخفيف وقعها على النفس. بحثت كثيرًا عن مقالات في تلك الحقبة تستنكر الفعل حتى وأن اختلف مسماه، لكن كان على ما يبدو في وقتهم تصنف كوسيلة ترفيهية شبابية غير ضارة،  ولا تستنكر إلا على استحياء، وغالبًا من خلال إلقاء المسؤولية على النساء وعلى ملابسهن وخروجهن من المنازل، في تلك الحقبة كان مصطلح التحرّش دارج وقوانين التحرّش معترف بها في أنحاء العالم ولا اظن بلداننا العربية كانت منعزلة أو مقطوعة عن العالم حتى لا تدرك أن تلك التجاوزات بحق النساء كانت تعرف "بالتحرّش الجنسي" وتشكل تهديد على امن واستقرار النساء.


2-      تساهل المجتمع مع السلوكيات المتحرشين:

 في أغلب حالات التحرّش داخل الأسر يتم التستر على المتحرش من قبل الأسرة من أجل سمعة العائلة، ويتوجه اللوم لضحية حتى وأن كان طفلـ/ـة، أما المتحرش فلا يتم عقابه داخل الأسرة أو لومه بل يصل الأمر ببعض الأهالي لخلق الأعذار والتبريرات لابنهم المتحرش.

كذلك للتنشئة داخل المدارس دور في إعداد المتحرش الذي من الممكن أن يفرغ شهوته متى ما أراد في المستضعفين من الطلاب، و يتم الستر عليه من قبل المسؤولين التربويين حرصًا على سمعة المدرسة أو لعدم الاهتمام بحماية الضحايا وتوفير بيئة آمنة لهم، وايضًا لا يوجد عقوبات صارمة داخل المدارس ضد قضايا التحرّش والعنف الجنسي بين المراهقين.

إن تستر الأسر والمدارس على تلك السلوكيات تخرج أعداد هائلة من كائنات لا تدرك عواقب أفعالها، فحين يخرج المتحرشون  إلى مجتمع لا يزدريهم أو يرفضهم، بل يستقبلهم ويحتضن سلوكياتهم الشاذة وكأنها فعل مشرف لا يستوجب منهم الخجل والشعور بالذنب، فحق حينها للمتحرش فعل ما يشاء و كيفما شاء مع النساء دون أي اعتبارات أخلاقية، فهو يعلم علم اليقين أنه ناجي من سوء أفعاله والمجتمع لن يزدريه على العكس تمامًا سيحصل على القبول والحماية، وتغطية سوء أفعاله بتحميل ضحاياه عواقبها.


3-      تطبيع احتقار وعدم احترام النساء: 

النكات الجنسية التي تنطوي على رغبة بتحقير المرأة عبر الفعل الجنسي تدار في مجالس الرجال بمختلف أطيافهم وتوجهاتهم وأعمارهم، وصل الأمر حتى لمواقع التواصل الاجتماعي، تلك النكات والقصص لا تؤدي فقط إلى تطبيع التحرّش الجنسي بل تعزز من الثقافات المسيئة والسامة التي تسكت وتهمش المرأة، وأصبحت بعض النساء تقبل تلك الاهانات وتخرس نفسها حتى لا يتم وصفها "بالنكدية".

أن تلك المجالس القائمة على الأحاديث جنسية تعزز من ثقافة ذكورية وتطبع التحرّش الجنسي، لو أنكر الرجال تلك الاحاديث والنكات والاتجاهات الذكورية التي تقلل من المرأة بطريقة غير مباشرة، لو أصبح الرجال يعتبرون هذا سلوك عنصري وغير مقبول لرأينا انخفاض كبير في الاعتداء والتحرّش والتقليل من المرأة.


4-      ثقافة تهمش رغبات النساء الجنسية: 

تعزز ثقافتنا غياب رغبة المرأة داخل العلاقة الجنسية، فهي بلا دور جنسي ولا رغبة جنسية، ومسلوبة الإرادة داخل العملية الجنسية، لا تملك الحق بالتصرف بجسدها كما تشاء، فنجد في صميم ثقافتنا أقوال متوارثة تؤكد على تهميش رفض النساء، مثل: "يتمنعن وهن الراغبات"، "مشتهية ومستحية" ، " المرأة إذا قالت: لا؛ فهي تعني نعم" تلك المقولات وغيرها تخبر الرجال أن عليهم الاستمرار بالضغط على النساء دون اعتبار لرفضهن فهو ليس إلا تصنع و لا قيمة له ولا يؤخذ بالاعتبار، وهذه المقولات تشجع على عدم الاكتراث بما ترغبه المرأة، تكرار تلك القناعات وترسيخها داخل الوعي الجمعي همشت من موافقة النساء ورضاهن داخل العلاقات الجنسية وبررت للاعتداء عليهن بحجة أنهن راغبات حتى ولو رفضن بشكلٍ قاطع وصريح.


5-      انعدام المساواة الفعليّة: 

التحرّش الجنسي مرتبط بشكل أساسي بغياب المساواة بين الرجل والمرأة داخل العلاقات العاطفية والجنسية، وكما تقول مارينا كوبر: "التحرّش الجنسي يحدث بسبب اللامساواة وهو في نفس الوقت نتيجة له، أي أن اللامساواة السبب والنتيجة للتحرش معا".

مفهوم العلاقات الجنسية لدينا جبريّ غير قائم على التراضي، فلا يوجد عقاب ديني أو قانوني على اعتداء الزوج على زوجته واجبارها على الجنس "الاغتصاب الزوجي" بل يبدو كمصطلح لا وجود له في قواميسهم،  بينما هناك أحكام لنشاز للمرأة -التي تمتنع جنسيًا عن زوجها- وأحاديث تخبرنا أن الملائكة تلعن النساء اللاتي لا يملكن رغبة جنسية اتجاه أزواجهن، فالعلاقة الجنسية في جوهرها قسرية، واللامساواة متجذرة بخفية داخلها، وعندما يحدث انتهاك المرأة جنسيا داخل العلاقات الزوجية لا نلاحظه ولا نستنكره بل نرى أنه من حق الزوج، وشعور المرأة بعدم الارتياح جنسيًا هو الشائع والمألوف، ما يحدث في الزواج هو نسخة تجريبية مصغرة تعكس طبيعة مفهومنا حول العلاقات الجنسية ككل. 


حين بدأت بطرح مفهوم المساواة داخل العلاقات الجنسية بالغالب يفهم بشكل سطحي وطريقة خاطئة فيظن البعض أنني أرمي إلى تبادل الأدوار داخل العلاقة أو منح المرأة السيطرة التامة داخل العلاقات -أطالب بالمساواة فكيف اناقض نفسي وارغب بمنح المرأة كامل السيطرة- ما أشير إليه هنا إعادة النظر في اخلاقيات العلاقة الجنسية، محاولة لموازنة كفّتي العلاقة، وأنّ يكون للمرأة الحق برفض الجنس وقبوله كما يحق للرجل، وأن على الرجل احترام رفض المرأة وقبول رفضها دون اجبارها بالقوة أو بطرق ملتوية، وحتى مستوى رضا المرأة لابد أن يكون مشروط؛ أولا: بأن لا تكون المرأة تحت أي تهديد (كالطلاق أو الطرد من الوظيفة أو من المنزل ..الخ) ، ثانيا : أن لا تكون مجبرة على الموافقة لأنها تخضع لضغط أو ابتزاز (مادي ونفسي واجتماعي).


6-      خلل أخلاقي: 

من الطبيعي أن التغييرات الاجتماعية والاقتصادية الضخمة تسبب الحيرة والارتباك لدى الإنسان، وربما تشوش رؤيته بين ما هو مقبول وغير مقبول، فكيف إذا حدثت تلك التغيرات الضخمة في بيئة فشلت مؤسساتها على إنتاج أساس قيمي متين يمكن الاعتماد عليه، متجاوزٌ لمبدأ " الثواب والعقاب".

من المؤسف أن ثقافتنا انتتجت أشخاص لا يمكنهم إصدار أحكام أخلاقية بشكل أكثر استقلالية تردعهم عن انتهاك حقوق الآخرين أو تطالبهم بمراعاة هذه الحقوق، صنعت أشخاص أشبه بالحيوانات المدجنة غير قادرين على ضبط نزعاتهم البدائية، لا يمتنعون عن إرضاء مطالبهم الأنانية إلا تجنبًا لألم مباشر يقع عليهم، و إذا أمنوا هذا الألم فإنهم لا يبالون بإلحاق الضرر على الآخرين، المنظومة القيمية السائدة في مجتمعنا والتي نعتمدها عليها كوازع داخلي لم تنتج لنا سوى أشخاص غير ناضجين أخلاقيًا، لا يزالون عالقين بين مرحلة الطفولة والمراهقة ، يعانون من خلل إدراكي في التمييز  بين ما هو مقبول وغير مقبول.


7-      غياب الرادع: 

بالعرف والعادة كان الرجل البدوي يترفع عن اذيّة النساء، ويعتبر الاعتداء على المرأة نوع من ضعف الرجولة، ليس لأن المجتمع قديماً كان حداثي يؤمن بحقوق المرأة، بل لأن العرب كانوا يستقبحون تلك الأفعال وينظر لفاعلها بعديم المروءة،  فالاعتداء على المرأة لديهم يرمز للاعتداء على أهلها (الذكور) ، احترامها من منطلق احترام الذكور الآخرين وليس احترامًا مباشر لها ولكرامتها، فشكل خوف الرجل على سمعته - الخوف أن يشاع عنه نقص المروءة - رادعً قوي لامتناعه عن تلك السلوكيات.


      النقلة التاريخية التي حدثت لمجتمعنا، و إزالة ذلك الضبط الاجتماعي القديم واستبداله "بأترضاها لأختك"، مع استبقاء احتقار المرأة ومشروعية استملاكها، سهل وشرع الاعتداءات عليها، فاصبح حبس الأخت والزوجة أسهل من الحفاظ على نقاء السمعة، فالسمعة شي لا يمكنه حبسه أو التحكم به إلا من خلال ضبط السلوكيات الفردية بينما من الممكن حبس النساء لضمن الإفلات من العقوبة المرتدة والقيام بكل الانتهاكات دون رادع أو خوف أو قلق على تلوث السمعة.


        ربما تشعر بأن الأمر لا يعنيك فأنت لم تتحرّش بأحد مسبقًا، أو لم تكن ضحية للتحرش من قبل، لكن ذلك لا يعفيك من المسؤولية الاجتماعية، ولن يحدث أي تقدم اجتماعي دون معالجة هذه الاختلالات الواضحة والصريحة والتي تعيق من تقدمه، فلا يجوز التعويل على الصمت والتستر على المتحرشين كإجراء يحل المشكلة، فنحن بحاجة إلى كسر هذا الصمت وفضح هذا التستر، والنظر بشكلٍ جدي لمشكلة التحرش الجنسي واعتبار المتحرش هو الجاني لا الضحية. ربما حان الوقت للبحث والنظر في أسباب لا تتعلق بملابس المرأة وأماكن تواجدها!

  



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

البرمجة منتج نسائي استحوذ عليه الرجال

تأملات في الذكاء الاصطناعي

أشلاء

الأمومة الموحشة

استبداد الذكورية على الرجال

الجندر وعلاقته بعدم المساواة بين الجنسين