تأملات في الذكاء الاصطناعي

 

        

    

       في (٢٠١٥م) نشرت الصحيفة البريطانية (The sun)  تغريدة عن إمكانية إقامة علاقة جنسية مع الروبوتات، بعد ثمان سنوات في شهر مايو من (٢٠٢٣م) تم إعادة تداول التغريدة بين المغردين مُبشرين بقرب تحقيق الحلم. الصحيفة البريطانية لم تكن أول من طرح الفكرة، فقد تناقلت العديد من الأعمال السينمائية والأدبية، والصحف والمجلات العالمية هذه الفكرة بتوقعات خيالية و آمال حالمة و مزاعم متباينة، أقرب الأعمال السينمائية واقعية في تجسيد مستقبل علاقة الإنسان مع الروبوتات كان الفيلم الألماني (I'm your man _2021) الذي سأستند على شخصياته و أحداثه خلال هذه المقالة لتقريب الصورة للقارئ.

أهم الشخصيات بالفيلم "ألما" البشرية و "توم" الذكاء الاصطناعي المتجسد في صورة بشري.
"توم" يبدو كإنسان لدرجة لا تكاد تفرق بينه و بين الإنسان حقيقي؛ يملك جسد من السليكون يشبه إلى حد كبير الجسد البشري في ملمسه و شكله الخارجي، يملك حواس تعمل بإتقان كما تعمل حواسنا فيستشعر الضوء و الصوت ليستجيب لهما بشكل تلقائي، ليس هذا فحسب، فقد كان يمتلك صوتًا بلكنة و نبرة تألفها الأذن البشرية ليس صوت آلي كـ(Siri)، كان يمكن لـ"توم" أن يظهر شعور الغصب و الفرح و الحزن فَيُخيّل لـ"ألما" بأنه يحس بألمها وسعادتها وحزنها، هذا غير قدرته الفائقة على الاهتمام بها واسعادها و تحقيق كل رغباتها ومتطلباتها، بالإضافة لكل ذلك، كان يتعلم بشكل أسرع من أخطائه، و يُعيد برمجة نفسه بنفسه ليتوافق مع ما تحبه وتفضله "ألما"، لكن كل تلك المميزات لم تكن كافية لردم الفجوة العميقة التي تَحُول بين تواصل "توم" و "ألما". 

ما الذي ينقص "توم"؟ أو بالأحرى، ما الفرق الجوهري بين الإنسان و الذكاء الاصطناعي؟

قديمًا كان يمكننا تمييز الإنسان عن كافة الكائنات غير البشرية بالعقل لكن الآن مع هذا الضيف الجديد يبدو أنه قد سحب منا ذلك الامتياز، فما الذي يمُيّز الإنسان و يجعله إنسان؟ 
الجواب على هذا السؤال يكون بتمييز الفارق الدقيق بين الإنسان و غيره مطلقًا، و بين الإنسان و الذكاء الاصطناعي المتجسد في صورة بشرية. 
هذا التمييز لكي يبدو دقيقًا ينبغي التقديم له بمقدمات ضرورية من شأنها أن تعطي للإنسان صورة جوهرية لا يشاركه فيها أحد و إن شورك في بعض أجزائها، فلابد من الوقوف على مفهوم النفس و من ثم مفهوم الوعي.

أولا: لمحة تاريخية موجزة عن فكرة النفس و تطور مفهومها:


في البدء سَنستعرض فكرة النفس تاريخيًا لتتبع تطور فهم الإنسان لكلا جانبيه المعرفي والأخلاقي.

قديمًا لم يكن الإنسان يدرك معنى النفس كما نفهم اليوم، بل كان فهمًا بسيطًا يجعله يظن أنها شيء به تكون الحياة، ثم تطور الأمر لتصبح النفس هي حامل الانفعالات و الملكات، مع أفلاطون بدأ التمييز الواضح لعدم ماديتها وطرحت مسألة خلودها و السبيل لترقيتها. أما أرسطو فعاملها بشكل وظيفي فصار هناك نفس للنبات والحيوان في مقابل الإنسان، و عرف أرسطو الإنسان بأنه حي مفكر مدرك للمفاهيم -هذا تمييز جوهري- . بعد ذلك، نُقلت المسألة إلى واقعها العملي، فَميز الرواقيون النفس من جهة تمييزها للخير والشر فصارت هناك نفس غير راشدة و نفس راشدة بها تكون المسؤولية الأخلاقية.
 أما في العصور الوسيطة فقدم الفارابي نظرية الفيض التي تتعامل مع الإنسان من حيث له نفس عاقلة على أنه في مرتبة وجودية يتِسيّد فيها الموجودات، أما ابن مسكويه فيميز بوضوح بأن النفس العاقلة تدرك ذاتها و تدرك أنها عاقلة. ثم مع ديكارت صارت النفس المفكرة التي تدرك ذاتها هي التي تملك حظًا وجوديًا أسمى، و في القرن التاسع عشر لم يعد البحث النفسي فلسفيًا، فأصبح هناك فهمًا جديدًا للمعرفة والأخلاق  فأصبح الوعي مجرد نشاط عصبي، و سلوك الإنسان ليس إلا انعكاس ماديًا بشكل أو آخر. ¹

مع الثورة التقنية و ظهور الأجيال الجديدة من الذكاء الاصطناعي في القرن العشرين والواحد و العشرين  عادت مسالة الوعي لطاولة البحث والنقاش الفلسفي، و عادت التساؤلات حول إذا كان الوعي مجرد نتيجة حتمية للنشاط العصبي فلماذا لا يملك الذكاء الاصطناعي الوعي كالإنسان، بالرغم من امتلاكه لشبكات عصبية اصطناعية معقدة ومتطورة! وهذا ما سماه الفيلسوف ديفيد تشالمرز "بالمشكلة الصعبة في الوعي"، حيث  اشار أن التحدي الأساسي في تفسير الوعي يكمن في فهم ماهيته، و فهم لماذا تنشأ تجربة ذاتية خاصة لكل فرد من تلك العمليات المادية التي تحدث في أدمغتنا.  

ثانيًا: ماهية الوعي (العلم و الإدراك):

يتضح مما سبق أن  الفلاسفة يتفقون أن الإنسان ذو قدرة على التعقل وإن اختلفوا في كيفية هذه القدرة، لكن الجدير بالذكر أن هذا الكائن له سمة يختلف بها عن بقية الموجودات الساكنة منها والمتحرك، تلك السمة هي الوعي. ²

يعي الإنسان الأشياء على نحوين: 

إما (knowledge by correspondence) يسمى العلم الحصولي، أي حصول صور المدركات لدى المدرك بواسطة ما، هذه الواسطة قد تكون حسية، مثل: المحسوسات عبر الحس، أو غير حسية عن طريق المفاهيم المنتزعة الكلية. عبر هذا الجزء من الوعي تتاح المعلومات الحسية و غير الحسية للذهن و من ثم للذات التي تنفعل معها وبالتالي تنتج سلوكيات جسدية أو عمليات ذهنية كالتحليل و اتخاذ القرارات.
الحيوان و الذكاء الاصطناعي يملكون جزء من هذا المعرفة و الإدراك فهم يدركون الأشياء إدراكًا حسيًا فقط، وإن كان الحيوان بآلة حسية طبيعية، و الذكاء الاصطناعي بآلة حسية صناعية، بينما يختلف الإنسان عنهما في كونه قادر على تحويل الحس الجزئي لمفاهيم كلية مجردة، و هنا يتميز الإنسان جوهريًا عن غيره.

- أما النوع الاخر من الوعي، هو الحضوري (knowledge by presence)، أي من قبيل حضور نفس المعلوم لدى العالم به، أي كما يدرك الإنسان ذاته و وجوده و مشاعره فهو يدرك نفس الألم لا صورته، و يدرك نفس جوعه لا صورته، هنا لا يدخل للذهن صور ورموز كما في الوعي الأول إنما تصبح لنفس حالة ما نسميها شعورًا ونميز بين شعور و آخر.

الذات
³ في هذا الوعي هي الذات العارفة (knower) التي هي محط الخبرات الشعورية، كما يمتاز هذا الجزء من الوعي بما يسمى ⁴(Qualia) و هي تعني الخاصية الذاتية للخبرة البشرية، أي الشعور و الإحساس الذي يتخلّل تجاربنا الذاتية، و هذا الإحساس غير قابل للنقل أو المشاركة فهو ذاتي في تجربة الفرد الشعورية النفسية، غير أنه يمكن وصفه باللغة. ⁵

على سبيل المثال:
 تستطيع أن تصف لنا طعم التفاح عند تذوقه، أو كيف كانت لذة النشوة عند أول تجربة جنسية، لكنك أبدا لن تستطيع نقلها كليًا كما تشعر، سيبقى جزء ذاتي من التجربة لا يمكن نقله كما هو حاضر عند المدرك، هذا ما يجعلنا نتذوق نفس الأطعمة، نرى نفس الألوان، نختبر نفس التجارب المؤلمة والسعيدة؛ لكننا ننفعل بها انفعالات متعددة و نصفها بصور تتقارب حينا و تختلف حينا آخر لكنها لا تتطابق غالبا. 

نعود إلى "ألما" و "توم" بعد نشوة الجنس كانت "ألما" تحاول نقل هذا الشعور الإنساني لـ"توم" عن الطريق اللغة بشكل شاعري، فوصفت اللحظة بذوبان الجزء في الكل، لكن "توم" لم يفهم بالرغم أنه سمع كلماتها ظل ينظر إليها بملامح آلية باردة بلا تفاعل كجثة مستلقية بجانبها.

و يمكن القول أن الوعي من النوع الأول (knowledge by correspondence) يمثل الجانب الموضوعي من الوعي، وهو الجزء الذي نملك حوله معلومات كافية مما مكننا من نقله إلى الذكاء الاصطناعي، و هو الذي جعل "توم" يظهر كأنه بشري، بينما الجزء الآخر من الوعي الحضوري (knowledge by presence) فهو الجزء غير المادي و الذاتي، الذي سيبقى كقطعة ناقصة و مجهولة في فهم الاحجية البشرية. ⁶

ثالثًا: الوعي و الإدراك بين الإنسان و الحيوان و الذكاء الاصطناعي:

إذا كان للحيوان قدرة على الإحساس الجزئي بل و حتى الإدراك الوهمي المتمثل في ما يبعثه الحس الجزئي مقيدًا بشيء ما كخوف الحيوان من حيوان آخر، فإن هذا النوع من المدركات أو القوى لا يجعل الحيوان في مصاف الإنسان، فهو في هذه الحالة - أي - الحيوان لا يدرك المفهوم بل منفعل بما يجلبه الحس، فهو لا يدرك هنا مفهوم الذات بما هي ذاته الخاصة ولا يتعقل إدراكه بما هو إدراك بل هو منفعل بمدخلاته، فهو يشعر وتحضر لديه المحسوسات وينفعل بها وبانطباعها. الطفل في مرحلة ما يكون بهذا القدر من الإدراك وإن كان أرقى من الحيوان بلا شك. أما  الآلات (الذكاء الاصطناعي) وأن كانت تملك قدرا عاليًا من الذكاء المنطقي يفوق الذكاء البشري إلا أنها لا ترتقي في الوعي و الإدراك حتى لمستوى الحيوان الذي يدرك إدراكًا وهميًا.
فإدراك الذكاء الاصطناعي يمكن وصفه ببساطة بأنه يعرف كل شيء لكنه لا يعرف أنه يعرف، ولا يعي ما يعرفه، ولا يدرك ذاته العارفة، فهو يحاكي البصر لكنه لا يبصر، و يحاكي السمع لكنه لا يصغي⁷،  يتحدث بطلاقة و يتقن قواعد اللغات لكنه لا يفهم كلمة واحدة مما يقول ⁸، يحاكي المشاعر و يتظاهر بالغضب و الفرح و الألم لكنه لا يعي ما هو الغضب أو الفرح، يتواصل مع البشر لأنه مبرمج على ذلك لا لأنه يملك إرادة تدفعه لمشاركة أفكاره و مشاعره و تجاربه معك.

إذن، قدرة الإنسان الخاصة على إدراك ما هو أبعد من الشعور ستميزه عن غيره، فهو يدرك أنه مدرك، و ذاته متصورة لديه مفهومًا فهو لا يشعر فقط بل يتعقل أيضا ! إذا كانت بعض الموجودات تشترك مع الإنسان في بعض نزوعه و قواه فإنه يمتاز عنها بمقدرته على نوع خاص من الوعي،  أعم من الإدراك و الشعور و إجراء العمليات المنطقية.

رابعًا: كسر العزلة الذاتية لدى الإنسان:

تبين لنا أن الإنسان غير قادر بشكل كلي على إيصال تجاربه الذاتية الخاصة التي عاشها بوجدانه -أو ما أسميناه بالوعي الحضوري-، فإنه كما قلنا و بقدرته التجريدية -المتواجدة في الوعي الحصولي-  يستطيع تحويل الأحاسيس الظاهرة منها والباطنة إلى مفاهيم، و من خلال هذه المفاهيم و بالقدر المشترك بيننا نحن البشر نعبر عن تجاربنا الوجدانية، وهكذا ننفذ إلى ذوات بعض عن طريق الدلالة اللغوية.
إذن، لا يمكننا فهم و تفسير الوعي بمعزل عن اللغة التي تعمل كمنارات لذواتنا المظلمة، فلا يمكننا رؤية الآخر و الشعور به و إدراك وجوده إلا من خلال نفاذ ضوئه لذواتنا، فتنكشف لنا الدلالات و المقاصد و المضامين التي بها ينفذ معنى الآخر إلينا.

فاللغة عند الإنسان مرآة تعكس أفكاره، عواطفه، ثقافته، خبراته، تجاربه، ذكرياته، خيالاته، أحلامه، آماله؛ و هذا ما يجعل اللغة البشرية تتجاوز غرض التواصل و تصل إلى ما هو ابعد من ذلك.

خامسًا: القدرة اللغوية التوليدية بين الإنسان والذكاء الاصطناعي:

للإنسان قدرة هائلة في التعامل مع اللغة ودلالتها، يستطيع الحديث عن أشياء لا وجود لها، و يبتدع عدد لا متناهي من المعاني لشيء الواحد، يمكنه التلاعب بالألفاظ والمعاني بطريقة مرنة وإبداعية، يمكنه استنباط المعاني و المقاصد من السياقات المختلفة. ⁹
فقدرة الإنسان التوليدية في الاستعمال اللغوي أو حتى الفهم اللغوي، لهو أمر يصعب تكراره في الذكاء الاصطناعي، فاللغة البشرية تعتمد على الخبرة والثقافة و العاطفة و التجربة، و تعامل الإنسان مع اللغة يرتكز على الاستخلاص و التأويل و الإدراك، بينما يعتمد التوليد اللغوي في الذكاء الاصطناعي على نماذج إحصائية تولِّد النص بالتنبؤ بالكلمات والجمل بناءً على الأنماط المخزنة في قواعد البيانات، و استخدام الذكاء الاصطناعي للغة هو نمذجة لبعض خصائص اللغة و ليس امتلاك للملكة اللغوية كما عند الإنسان.


سادسا: الحس الجمالي  بين الإنسان والذكاء الاصطناعي: 

ذكرنا فيما سبق في تعريف الوعي أن الوعي الحضوري يمتاز بسمة (Qualia) و هذه السمة هي التي انتجت لنا الفنانين والمبدعين، لولاها لكان العالم خالٍ من القصائد و الأغاني و الأفلام و المعزوفات و اللوحات و الروايات، و هذا ما يفتقر إليه الذكاء الاصطناعي فهو لا يملك ذات واعية أو تجربة ذاتية، و الفن في أصله ذاتي.

نعم، سيتمكن الذكاء الاصطناعي من رسم اللوحات و كتابة القصائد لكنها ليست بفن هي أقرب إلى إعادة الأعمال الفنية بصورة أكثر دقة و اتقان، فالذكاء الاصطناعي يتعامل مع الفن كما يتعامل مع العلم، ينتج اللوحة أو القصيدة من خلال جمع أكبر قدر من الأنماط السابقة و المكررة من اللوحات أو القصائد المخزنة لديه في قواعد البيانات، ثم يعيد إنتاجها من خلال محاكاة الأساليب، فهو ينتج من الموجود بالتركيب و الجمع، لا بالخلق و التوليف كفنان محترف، و هذا ما يجعل كسر الانماط مهمة مستحيلة على الذكاء الاصطناعي بينما للفنان العادي مهمة يسيره.

حتى ولو سلمنا جدلاً، بأن الذكاء الاصطناعي تمكن من إنتاج الفن فهل سيتمكن من إدراك الجمال فيه؟  

كما يبدو، إن إدراك الجمال والانفعال به يستوجب وجود عوامل لا يملكها الذكاء الاصطناعي ومنها: 

الاستجابة العاطفية: لابد أن يملك مستقبل الفن عاطفة و شعور حتى يثيره الفن و يستجيب له، و هذه الاستجابة قد توجد لدى الحيوان كما عند الإنسان وإن كانت بشكل أضعف.

التجربة الذاتية: التجربة الذاتية تساعد متذوق الفن على الاتصال بالفن و تكوين وربط مع الأعمال الفنية، فهو لا يرى أعمال فنية بل يرى تجاربه الشخصية و ذكرياته متجسدة فيها، فتبدو الأشياء في عينيه بغير ظاهرها، و هذا ما يتيح لنا القدرة على تقدير وتقييم الفن.

التجربة اللغوية:  اتضح لنا أن البشر يملكون قدرات لغوية عالية، و قدرة هائلة في التعامل مع اللغة ودلالتها، و هذا مكنهم من القدرة على استخدام اللغة بشكل إبداعي و مرن لا يستطيع الذكاء الاصطناعي القيام به.

لوحة "مسرح أوبرا الفضاء" مرسومة بواسطة الذكاء الاصطناعي 


خامسًا: المسؤولية الأخلاقية بين الوعي و الإرادة الإنسانية :

الأخلاق من أكثر المسائل المرتبطة ارتباط وثيق بالوعي، فالقرارات الأخلاقية الناتجة من المسؤولية الأخلاقية لا تنتج من عمليات عقلية بحته (لهذا لا يمكن للذكاء الاصطناعي أن يملك حس أخلاقي أو مسؤولية أخلاقية) ولا من الشعور و الاحساس فقط (لذا لا تملك الحيوانات مسؤولية أخلاقية وإن كان لديها حس أخلاقي ضعيف) بل من عمليات معقدة يتشارك فيها الوعي بكل أجزائه.

إذن المسؤولية الأخلاقية؛ هي معيار الإنسان العاقل بالمعنى الأخلاقي، و هنا يتضح أن هذا الإدراك الخاص هو الذي يكون به الإنسان ذو إرادة حرة، و هو الذي يحدد الإنسان به ما يتعلق بإرادته، و من هنا يكون الفارق بين مجرد الإدراك و الإحساس، و بين التعقل والعقلانية، فالحيوان و الطفل على قدر ما لديهم من مدركات إلا أنه لا يعول على ذلك لعدم تكامل الإرادة الحرة التي بها تكون المسؤولية، و بهذه المسؤولية يكون الإنسان إنسانًا بالمعنى الأخلاقي، فكثير من الناس نسميهم إنسان بالمعنى الماهوي و لكن بالمعنى الأخلاقي الأمر يبدو مختلفًا.

نعود لتوم و ألما، هل يمكن أن يكون الذكاء الاصطناعي بديلاً عن علاقاتنا الإنسانية الحميمة؟ 

على ما يبدو أن هذا النوع من العلاقة يتضمن اشكاليات أخلاقية، وهي: 

- غياب الإرادة الحرة:  يقول سارتر " لا يمكن أن تجد الحب إلا مع شخص حر"؛ و هذا يعني أن الشخص الذي  يملك إرادة حره غير مجبر على منحك الحب و له الخيار في ذلك، لكن الذكاء الاصطناعي كما وضحت في الأعلى يفتقر للوعي و بالتالي يفتقر للإرادة الحرة فهو مبرمج على حتمية الحب. 

و هذا ما كان يزعج "ألما" في "توم" فهي لا تشعر أنه يمنحها الحب لأنه مختار بل لأنه مبرمج على ذلك.


- وهم وجود ذات للآخر:  بالنظر إلى الفعل التواصلي الذي يحدد اطار العلاقة بين الانسان و الذكاء الاصطناعي فأنه ليس قائم على الحوار و التفاهم بين ذوات عاقلة، بل قائم على علاقة الفرد مع نفسه (علاقة ذو اتجاه واحد) و الآخر فيها لا وجود له وإن كان يوجد بشكل مادي، فكما وضحت في ماهية الوعي فإن الذات في الروبوت ليست بذات حقيقة بل وهم، إذن، أنت داخل هذه العلاقة تكون المثير و المستثار، الروبوت مجرد أداة غير فاعلة يقع عليها الفعل، فلا تشعر، ولا تحس، ولا تستثار، ولا تعي، ولا تعقل، و العملية الجنسية لم تحدث بين ذوات واعية، بل حدث ما يشبه الفعل الجنسي الناقص، الذي لا يطلق ابدًا عليه علاقة جنسية تامة. 

هذا ما جعل "ألما" تشعر بأنها تعيش داخل وهم علاقة عاطفية مع الروبوت "توم". 


- فجوة فارق الوعي ¹⁰ : في جزء فارق الوعي والإدراك بين الإنسان و الحيوان و الذكاء الاصطناعي، وضحت بأن الحيوانات و الأطفال يملكون وعي أضعف من وعي الإنسان الراشد -وإن كان وعي الأطفال قابل للتطور مع مراحل النمو-، بينما الذكاء الاصطناعي لا يملك حتى الوعي الضعيف فهو معدوم الوعي، فإذا كان فارق الوعي بين الإنسان و الحيوان يجعل من العلاقة الجنسية بينهم محظورة و غير أخلاقية فكيف يمكن للإنسان إقامة علاقة مع شيء لا يملك الوعي بالأصل!


مما سبق يتضح أن جوهر العلاقات التواصلية  يقوم على وجود الآخر -وجودًا واعيًا مدركًا-  فإذا تغافل الإنسان و استمر في علاقة مع "كيان" يفتقر للإرادة أو الوعي فهو بذلك يتهرب من المسؤولية الأخلاقية اتجاه نفسه واتجاه الآخر.  و هذا ما كانت تحاول قوله "ألما" في نهاية الفيلم أننا سنفقد المسؤولية الأخلاقية، نفقد ما يميزنا كبشر، سنفقد المعنى لوجودنا عندما نجعل كل ما في العالم مصمم لتلبية رغباتنا و احتياجاتنا دون الاكتراث للعواقب الأخلاقية التي سنخلفها.


ماذا يعني أن تكون إنسان ؟

 أول إجابة حضرت لذهني، ما حفظته عن ظهر قلب أيام الطفولة في المدرسة "ميز الله الإنسان بالعقل على سائر الكائنات"، لكن اليوم و بعد تجربة ذاتية واعية طويلة أيقنت حقيقة مختلفة، ما يميزنا كبشر بالإضافة إلى عقولنا، هي حساسيتنا الاستثنائية على استشعار الجمال و الإبداع، إدراكنا للحظات اختلاط رشدنا بطيشنا، جرأتنا الخلابة على كسر حواجز المنطق و تجاوز حدود المعقول، قدرتنا المدهشة على اعادة الأمور لمسارها الصحيح حينما تنحرف.



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش: 

1- للاستزادة ممكن النظر إلى: تاريخ الفلسفة، فردريك كوبلستون، المجلد الأول: اليونان وروما، والمجلد الرابع: الفلسفة الحديثة، مترجم من المركز القومي للترجمة. د. إبراهيم مدكور، في الفلسفة الإسلامية، دار إحياء الكتب العربية، ١٩٤٧.  أبو نصر الفارابي، كتاب الحروف، تحقيق: محسن مهدي، دار المشرق.

2- من المهم أن يدرك القارئ أن الوعي المقصود هنا هو الوعي الذهني بالوجود و الذات، هو اشمل من الإدراك والمعرفة والعمليات المنطقية والشعور والاحساس.  وجب التنويه بأن هذا المعنى لا علاقة له بالمعاني المتداولة بين الناس، فهو لا يعني التبصر الروحاني الذي يستخدمه البعض لوصف يقظة روحه ، أيضا لا علاقة له بالتراكم المعرفي والثقافي الذي يصفه البعض "بلعنة الوعي". 

3- الذات ممكن وصفها بحامل الوعي، ومن المهم أن نلاحظ أن الذات ليست ثابتة الخصائص بل متغيرة بحسب الوعي الذي ينمو ويتغير بمرور الزمن وتعدد التجارب وتراكم الخبرات، وهذا السبب وراء اختلاف ذاتك في المراهقة عن ذاتك وأنت في الأربعين. 

4- لم أجد كلمة مرادفة لها باللغة العربية، فحاولت تقريب المعنى للقارئ بقدر الإمكان.

5- انظر إلى: محمد ناصر، القانون العقلي للسلوك: المبادئ والأسس، ومضات للترجمة والنشر، ٢٠١٨. الدكتور أيمن المصري، أصول المعرفة والمنهج العقلي، دار الأميرة ،٢٠١٢. Antonio Damasio, Self Comes to Mind: Constructing the Conscious Brain (Pantheon, 2010)

6- Qualia ممكن أن تنتقل بين البشر من خلال اللغة كما وضحت لكن حينما انقل لك تفاصيل تجربتي الذاتية باللغة فأنت لا تحصل على تجربتي كما هي بل تجربتك التي نتجت من استماعك لتجربتي، فما تملكه تجربة من تجربة وجودية اخرى. 

7- هنا المقصود أن الروبوتات تحاكي الحواس على المستوى المادي فقط فهي ترى وتسمع الواقع كما هو ظاهر، فتستقبل المحفزات البيئية المادية بأجهزة الاستشعار والكاميرا وكافة المدخلات لديها ثم تعالجها من خلال الخوارزميات والتعلم الآلي فتحلل الأطوال الموجية والإشارات الصوتية وخلافه، ومن ثم تتعرف على الأشكال والألوان والأنماط والأصوات واللغات واللهجات وبقية الخصائص المرئية والصوتية للأشياء و لا يمكنها الوصول إلى اعمق من هذه المعالجة المادية للمعلومات والبيانات.

8- ليتضح الاختلاف من الناحية اللغوية بين الإنسان والذكاء الاصطناعي اطلع على تجربة الغرفة الصينية للفيلسوف جون سيرل. 

9- انظر إلى : نعوم تشومسكي، آفاق جديدة: في دراسة اللغة والعقل، ترجمة: عدنان حسن، دار الحوار للنشر، ٢٠٠٩.

10- فجوة فارق الوعي مهمة حتى بين البشر، فقد يظن البعض أن المانع في العلاقة الجنسية مع الأطفال والمراهقين هو المانع القانوني بينما في الأصل المانع أخلاقي، فعندما يمارس شخص بالغ علاقة جنسية مع طفل/مراهق فهو يتراجع عن رشده ومسؤوليته الأخلاقية كبالغ واعي وينزل إلى منزلة أدنى ويمارس لأجل الغريزة كالبهيمة.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

البرمجة منتج نسائي استحوذ عليه الرجال

الأسباب الغائبة

أشلاء

هي ...

الأمومة الموحشة

استبداد الذكورية على الرجال