الأمومة الموحشة
"ولادة الطفل تعني موت والديه" هيغل
لا نتحدث كثيرًا عن الوجه البشع للأمومة، نحاول
إخفائه بالقناع المقدس التقليدي أو بالصورة الحديثة المزركشة بالعلم، نتجاهل عمدًا
السراديب المظلمة للأمومة، نقذف الأمهات داخلها ونتركهن يخضن صراعاتهن وحيدات ومن
حولهن كائنات ملائكية صغيرة تمتصهن بشراسة مرهفة.
عندما نجرب إزالة القناع المقدس للأمومة سنجد خلفه أمهات منهكات يدورون داخل دوامات من الإحباط والقلق دون إفصاح، يواجهن علاقات متوترة مع أطفالهن ولا يستطعن البوح بها، لأن المجتمع حكم على الأمومة بالغريزة القائمة على الحب اللامشروط والتضحية اللامحدودة، وأن الأم لا بد من أن يخلو قلبها من كل المشاعر الإنسانية السلبية. سنعثر على أمهات يتعاملن مع الطفل كمشروع خاص تملكه، تثقله بكل رغباتها وأحلامها وأخطائها وعيوبها، تستلهم قيمتها من خلاله ولا تفصله عنها ككيان مستقل بل تظن أنه امتداد لوجودها، فهي لا تكتفي بالأنا الخاصة بها ولا ترى لوجودها غاية سوى من خلاله، فتنذر نفسها لأجله بكل حب كما أخبرها دينها وثقافة مجتمعها، وحين لا يحقق الابن أو الابنة أحلامها يصبح رمزًا للعقوق. وبين كل أولئك الأمهات نجد نساء حلت عليهن اللعنات وتعرضن للضغط والإجبار ليخضن تجربة الأمومة بالقسر، فيعشن في حالة من الانقسام بين تحقيق ما يريدون وما يراد منهن. هؤلاء الأمهات التقليديات لم يتعلمن التفكير أو الشعور إلا من خلال أطر مسبقة أحاطت بوجدانهن حتى اغتربت ذواتهن.
حولت الرؤية التقليدية للأمومة إلى فعل إجباري
هدفه وغايته إنجاب أكبر عدد من الأطفال دون اهتمام للطفل أو للأم، فظهر لنا أمهات
يقومون بإعادة إنتاج القيم الذكورية كما هو الحال مع أم سيمون دو بوفوار. سيمون
تتحدث في كتابها موت عذب جدا عن علاقتها المتوترة بينها وبين أمها كمثل غالبية
علاقات الفتيات بأمهاتهم.
"أمي في طفولتها ضغطوا جسدها وقلبها وعقلها تحت لجام المبادئ والمحظورات حتى اعتادت أن تشد الحبال بنفسها"، "لقد دخلت أمي الحياة مع أكثر المبادئ صرامة: آداب القروية وأخلاق الراهبة". تحاول سيمون أن تستعيد حياة أمها قبل أن تكون أم، وكأنها تعيد كيان أمها المسلوب بعد الأمومة لتفهم دوافع أمها ورغباتها. وصفت أمها بالمرأة التقليدية المخلصة جدًّا لزوجها رغم علمها بخيانته كانت تغفر له وتبقى منتظرة كل ليلة عودته للمنزل، رغبات زوجها وأحلامه دائما تأتي قبل رغباتها. شاهدت سيمون أمها وهي تفقد جمالها وبهجتها وحيويتها، راقبتها وهي تذبل من أجل أبيها. وعندما مات أبيها تحررت أمها من بعده وكأنها تخلصت من قيودها واستعادة حريتها المسلوبة، تخلصت من كل المحظورات التي اضطهدتها طوال حياتها.
توضح سيمون إن أمها كانت دون أن تدرك تنتقم من بناتها كنوع من الثأر على تلك الحياة المسمومة التي عاشتها، كانت تشعر بالغضب لأن الطريق الذي انفتح أمام بناتها كان مغلق أمامها، استبدت على بناتها واعتقدت أن ذلك نوع من الرعاية، كان حبها لبناتها عميق ومتمزق في ذات الوقت. سيمون ترى الأمومة تشكيل اجتماعي لذا هي كانت أكثر تسامح مع أمها على الرغم من كل ما حدث وعاشته بسبب أمها إلا أنها لاحظت استعادة أمها لحريتها بعد وفاة أبيها وكأنها تعيد بناء كيانها المحطم¹.
أكثر ما شدني في الكتاب تشابه حياة أم سيمون مع
الكثير من النساء العربيات التقليديات. فالنساء العربيات يتعرضن للتهميش منذ لحظة
الإنجاب، يتم تشويه نظرتهن لذواتهن، يتعرضن للضغط الاجتماعي وللفقر المؤنث، يجبرن
على البقاء مع أزواج لا يُحتملون، تتحمل العنف الأسري لأجل أن تبقى مع أطفالها.
ونتيجة لذلك تكون البعض منهن خاضعة مستسلمة وسلبية، أو تعيّد إنتاج القهر
والاستبداد على بناتها كنوع من الثأر كما تفسره سيمون.
التغيرات الاجتماعية والثقافية الجديدة أثرت على الأمومة، فالأم التقليدية بدأت تختفي شيئا فشيء، وظهرت نسخة حديثة للأمومة، بدأ الطب وعلم النفس والاقتصاد والدراسات التربوية يتدخلون بتشكيل صورة الأمومة، فلم يعد الأمر يخص الأديان وحدها. بدأت المجلات، والكتب، وشبكات التواصل الاجتماعية تروج لصورة "السوبر ماما" الأم العاملة الناجحة في عملها خارج المنزل وفي نفس الوقت أم تقليدية تعمل داخل منزلها وتهتم بكافة الأعمال المنزلية دون أي مساعدة حتى من زوجها. أصبحت الأمومة أشبه بحلبة سباق بين الأمهات، وكل أم تحاول أن تضع أكبر قدر من الصور على مواقع التواصل الاجتماعي لتثبت أنها الأم العصرية المثالية السعيدة، وتغذي شعور الذنب عند الأخريات.
إنهن الأمهات البهلونيات كما تصفهم أليف شفق²، يعشن في حالة من الذنب الدائم لعدم وصولهن لصورة الأم المثالية التي يروج لها
الإعلام، يتعرضن لضعف الضغوط التي تعرضت لها الأمهات التقليديات، أرواحهن ممزقة
بين واجبات الأمومة والأعمال الروتينية المنزلية والعمل خارج المنزل، يشعرن أن
المشكلة فقط في عدم إدارة الوقت!
لا يتسنى للأم الحديثة الإفصاح عن خسارتها لترقية وظيفية أو حرمانها من بعض الفرص فقط لكونها أم، لا يذكر الاقتصاد فقدان الأمهات للدعم في العمل بل يطلب منهن النجاح دون أن يحصلن على الدعم. لن تخبرنا كتب التربية عن غياب دور الأب في الرعاية، ولن تذكر تقصير الآباء وإهمالهم لأطفالهم، فقط تخضع الأمهات للمعايير القاسية وكأنها تعاقب الأمومة وتكافئ الأبوة. لا يتحدث الطب عن اكتئاب ما بعد الولادة، أو مضاعفات الحمل أو أهمية الإجهاض كما يتحدث عن تأخر الحمل وكأنه المشكلة الوحيدة للأمهات! لا يتعامل علم النفس مع الأمهات كأنفس بشرية متضررة بل يعاملهن كمذنبات في كل الأحوال.
على الرغم من أن كلا الرؤيتين تبدوان متناقضتين،
إلا أنها تشتركان بأمر واحد؛ تركيز كل رؤية على ما تريد متجاهلة الأم ومشاعرها
وصحتها ورغباتها، فالرؤية القديمة تحيط الأمومة بالقداسة لتسلب الأم كيانها، بينما
الرؤية الحديثة تحدث اشتباك وجودي بين الأم وطفلها لتشعرها بالارتباك والذنب طول
حياتها.
الأمومة ليست أمر ممتع وبسيط وليس بمجرد الإنجاب
تتحول جميع النساء لأمهات، فالعملية البيولوجية ليست كافية. الأمومة لها
جوانب متناقضة: فقد تندم بعض الأمهات على حب أطفالهن كالعالمة ماري كوري التي أحبت ابنتها
الكبرى لأنها اتبعت خطاها وأصبحت عالمة فيزياء بينما كانت قاسية اتجاه ابنتها
الصغرى لاهتمامها بالموسيقى عوضاً عن العلم³، والبعض الآخر من الأمهات قد يشعرن
بالسعادة التامة بالحب اللامحدود كالشاعرة سيلفيا بلاث التي رأت أن الإنجاب رحلة
لإعادة اكتشاف الذات "سأكتب لأحرر ذاتي بعمق ومن ثم أنجب الأطفال وأتعمق أكثر"²،
والبعض الآخر قد يكون لديهم مشاعر متناقضة ممزقة مثل أم سيمون. أيضا نشاهد في
الأخبار العديد عن القصص الواقعية لأمهات قتلن أطفالهن أو استغلوهم في أعمال غير قانونية.
مجتمعنا لا يزال غير مستعد لوضع الأمومة تحت مجهر النقد، فالأمومة من جهة محصنة بالموروث الثقافي والديني، ومن جهة مقيدة بالخطاب التربوي الذي لا ينقل تجارب الأمهات الحقيقة. ما أرفضه هنا ليس الأمومة بل تلك النماذج المثالية غير الواقعية التي أرهقت بها النساء على مدى قرون لبلوغها، الأمومة ليست غريزة، أيضا ليست ممارسة لها قواعد محددة وصارمة ينبغي اتباعها، الأمومة تجربة ذاتية فريدة، علاقة إنسانية معقدة ذات أبعاد متعددة، وحياة الأمهات أوسع من تجربة الولادة.
______________
1- موت عذب- سيمون دو بوفرا
2- حليب أسود - أليف شفق
3- هوس العبقرية ، الحياة السرية لماري كوري- باربارا جولد سميث
تعليقات
إرسال تعليق