هل عاطفة المرأة تمنعها من تولي المناصب القيادية؟



     هناك اعتقاد سائد أن النساء كائنات عاطفية بينما الرجال كائنات عقلانية، وبناء على ذلك الاعتقاد فإن المرأة لا تصلح للقيادة ولا لتولي السلطة، لأنها أرق وأضعف من أن تتخذ القرارات المصيرية. 

 إذن مشكلتهم كما يزعمون ليست نابعة من كونك امرأة بل من عاطفتك. لنفترض أن ذلك الاعتقاد صحيح وأن العاطفة تتعارض مع القيادة، لنثبت صحة افتراضهم نحتاج لوجود شخص ذو معدل ذكاء عالي وقدرات عقلية سليمة ويتمتع بذاكرة جيدة لكن يخلو بشكل تام من العاطفة، إليوت -حالة مرضية لدى طبيب الأعصاب أنطونيو داماسيو- سيكون هو النموذج المثالي لذلك. 

كان "إليوت" مصاب بورم في الفص الجبهي (الجزء المسؤول عن المشاعر والوعي بالنفس) من دماغه وبعد استأصل الورم، كانت لا تزال قدراته العقلية سليمة ذاكرته جيدة،  يتحدث بكل عقلانية ووضوح لا تظهر عليه أي أعراض جانبية،  بعد أشهر من الحادثة بدأ يسوء كل شي فتراجع أداءه في العمل، بدأ يهمل حضور الاجتماعات والمواعيد مما أدى في النهاية إلى فقدانه وظيفته، ثم بعد ذلك تورط في طرق مشبوهة لكسب المال انتهى به الأمر إلى الإفلاس.  

 "إليوت" قبل الورم كان شخص ناجح ملتزم بعمله شخص جدير بالاحترام والثقة، ونموذج يحتذى وبعد الورم تحول لشخص مختلف عديم المسؤولية غارق في الحضيض، كانت حالته محيرة لماذا أصبح شخص مختلف، لماذا يقرر أن يختار الخيارات الخاطئة ولا يميز بين الصواب والخطأ.

لفهم حالته أخضعه الأطباء لاختبارات نفسية وعقلية، كانت النتائج تشير إلى أن ذاكرته، ومهاراته اللغوية، وإدراكه،  ومهاراته في التعامل مع الرياضيات كلها موجودة وسليمة، لم يكن غبياً ولا جاهلاً ولا مجنوناً، لكنه يتصرف كما لو كان معتوه! 

أدرك الطبيب "داماسيو" أنه كان منشغلًا بذكاء "إليوت" وجميع الاختبارات التي أجريت كانت تقيس قدرته على التفكير ولا تستطيع قياس إحساسه، ما كان ينقص "إليوت" ليس التفكير، فهو قادرًا على سرد مأساة حياته وكأنه متفرج عليها، لم يكن هناك أي شعور مصاحب لسرد فهو لا يشعر بالألم ولا الخجل ولا ندم،  قادر على شرح القرارات التي اتخذها بتسلسل منطقي ودقة تامة لكن لا يدرك لماذا قرر مثلاً أن يترك ابنه في الشارع ليذهب لحضور المباراة، لقد صار أشبه بالآلة قادر على المشي والكلام والتفكير لكن غير مبالي لشي، لقد فقد القدرة على التمييز بين الصواب والخطأ. 

بناء على الاعتقاد السابق لا بد من أن يكون "إليوت" أجدر البشرية بالقيادة فقدراته المعرفية جيدة ولا يوجد عواطف تحول دون قراراته المصيرية الناجحة لكن ما الذي جعله غير قادر على إتخاذ القرارات الصحيحة إذا كان عقلاني بشكلٍ تام؟  

الأبحاث التي أجرها الطيب "أنطونيو داماسيو" وزملاؤه على إتخاذ القرارات تثبت لنا عكس ذلك الاعتقاد القديم،  فالعواطف ضرورية من أجل الإدراك السليم، ومهمة في اتخاذ القرارات، بل إن القرارات التي اتخذت تحت تأثير العاطفة كانت أكثر صواب من القرارات التي كانت بمعزل عن العاطفة. 

فإذا سلمنا بحجة أن النساء عاطفيات هذا يعني أنهن أكثر جدارة بتولي المناصب القيادية من الرجال. 

في 2008 أجريت دراسة استقصائية للمهارات القيادية للجنسين كانت الدراسة تقيس ثمان مهارات قيادية (الصدق، الذكاء، الالتزام، الحزم، الطموح، التعاطف، الانفتاح، الإبداع)  المفارقة أن النساء تفوقًا على الرجال في خمس مهارات (الصدق 50% لنساء و 20 % لرجال ) (الذكاء 38٪ لنساء 14٪ لرجال)، (التعاطف 80% لنساء 5% لرجال) (الانفتاح 47% لنساء و 28% لرجال) (الإبداع 62% لنساء و 11% لرجال وتعادلن معهم في مهارتين العمل الجاد والطموح، أما من ناحية الحزم يتفوق الرجال على النساء بنسبة 44% بينما النساء 33%.  

إذا كانت الدراسات العلمية والإحصائيات تشير لقدرة النساء على تولي القيادة وتؤكد على امتلاك المرأة للمهارات التي تمكنها فلماذا لا يزال هناك أعداد قليلة جدًا من النساء في المناصب العليا؟

يعود ذلك إلى: 

  • أولاً: التاريخ البشري رسخ عبر الآلاف السنين ارتباطًا بين مفهوم السلطة والسمات الذكورية، فالنفوذ كان يفرض بالقوة الجسدية والعنف والحروب، بينما التعاطف والانفتاح لم يكن ينظر لها كصفة قيادية بل كنوع من الضعف. القائد الجدير بالاحترام بين أفراد مجتمعه هو من كان يستخدم سلطته وقوته ليستبد ويخضع من هم أضعف منه. كذلك ساهمت الاختلافات البيولوجية من تعزيز تلك الصورة النمطية، فعند النظر للقصص التاريخية للحكام والسلاطين وقادة المعارك فهم يتجسدون بأجساد ذكورية قوية وأصوات جهوره، كان يذكر لنا التاريخ أن عمر ابن الخطاب كان صاحب صوت جهور، ما فائدة من ذكر تلك المعلومة! وما هي الميزة في أن يكون القائد ذو صوتًا جهور؟ أدى ذلك الارتباط بين السلطة الذكورية إلى خلق تحيز لا واعي في وعي المجتمع، فمن الطبيعي نجد شخص مؤمن بأفكار تقدمية لكنه عند منح السلطة يتحيز، وحتى النساء القائدات تؤكدّن بطريقة غير مباشرة ذلك التحي، فتعبر عن سلطتها من خلال تصرفات وسلوكيات ذكورية، ملابس أشبه بملابس الذكور، وكأنه لن يتم منحها الثقة ولا الإيمان بجدارتها حتى تكون على هيئة رجل! 
  • ثانياً: مع بداية استقرار الإنسان في القرى والمدن وتحسن أوضاعه لم تعد السلطة تعتمد فقط على القوة البدينة كالسابق بل ارتبطت بامتلاك المال، ونشأ تحالفًا متين بين امتلاك الثروات والسلطة،  وبالنظر لتاريخ الاقتصادي نرى أنه تم إقصاء المرأة بشكل جائر من امتلاك الثروات ومنعت من حق التصرف بها،  واحتكرت الثروات بيد طبقة محدودة من الرجال وحتى النساء اللاتي ينتمون لتلك الطبقة كن مهمشات، لم تملك النساء أي ثروات لم تدخل في العملية الإنتاجية إلا خلال السنوات الأخيرة وهذا الإقصاء تسبب في إفقار النساء وبالتالي حد من فرصهم لتولي المناصب القيادية.
  • ثالثاً: من خلال التنشئة الاجتماعية يتم توجيه الطفلة وتعليمها أدوار الرعاية والتربية والأعمال الروتينية المنزلية التي لا تتطلب صنع قرار، بينما يتم توجيه الطفل نحو الأدوار التي تتطلب منه صنع القرار وتمنح له المسؤولية في عمر مبكر. كذلك يتم يتعرض الطفل لضغط أكثر ودفعه نحو النجاح، بينما الطفلة يتم الحد من طموحها ويتم تعليمها التخلي عن أحلامها حتى وإن كانت تتفوق على أخيها الذكر. تلك التنشئة ساهمت في تعزيز ثقة الطفل ودفعه للأمام بينما أفقدت الطفلة ثقتها بنفسها وجعلتها في حالة شك حول قدراتها وإمكانياتها. 
  • رابعاً: يتوجب على النساء دومًا التوقف في منتصف الطريق، كم عدد النساء الذي نعرفهم توقفن عن الدراسة بعد الزواج، أو انقطعن عن العمل بعد الولادة، الرجل لا يتوقف أبدا حين يتزوج أو حين يصبح أب يبقى مستمر، المرأة هي فقط من تقدم تنازلات وتقبل أن تبقى في الجانب الخفي القابل للمحو والنسيان.
  • خامساً: تكفل الرجل دائماً بدور الإعالة والمرأة بدور الرعاية وهذا التقسيم الجندري هو ما يجعلنا نظن أن رعاية الأسرة مشكلة المرأة فقط لكن إعالتهم في العصر الحديث أصبحت مشكلة كلا الجنسين، فنقبل أن تكون المرأة معيّله لكن نرفض أن يقدم الرجل الرعاية، والرجل الذي يقوم بدور الرعاية تصبح رجولته مهددة بالخطر ويتعرض للاحتقار. لذلك نعمد دوماً بدفع المرأة لتلحق بدور الرجل وتكمله وتظل في نفس الوقت تؤدي دورها فتكون متشتتة بين دورين ويعرقل ذلك التشتت تقدمها المهني، بينما الرجل متفرغ بشكل كامل لدوره ويركز ويصب جهده عليه. لماذا لا لنخلق نوعاً من التوازن بين الرعاية والإعالة وتكون عمل إنساني مشترك بين الجنسين، لماذا لا ندفع بالرجل للاتجاه المعاكس حتى يلتقي الجنسين في نقطة مشترك.
  • سادساً: من النقاط السابقة يتضح أن هناك أسباب تاريخية واقتصادية واجتماعية قللت من فرص النساء لبلوغ القمة لكن أيضا هناك أسباب ذاتية، ربما الأرقام تخبرنا أن النساء يملكن مهارات أعلى، لكن المشكلة ليست فقط في امتلاك المهارات بل في كيفية التعامل معها وأين توجه.  

      هناك جملة ساخرة نرددها حين نرى رجل يطمح لما هو أعلى من مهاراته "من وين يجبون العيال الثقة" بالرغم أنها ساخرة إلا أنها تعكس شي من الحقيقة، الرجال رغم قلة مهاراتهم إلا أنهم أبرع في استخدامها وتوجيهها نحو طموحهم، هم أكثر ميل للمخاطرة، وبذل المحاولات، والتمسك بالفرص، وحين ينجح الرجل فهو يعزي الفضل لنفسه. بينما النساء دومًا يقللن من قدراتهن وكفاءتهن، يشعرن بالشك نحو أعمالهن وإنجازاتهن، يشعرن بالتردد عن الإقدام، يفتقرن لدافعيه، وحتى حين تنجح المرأة فهي  تحاول نسب نجاحها إلى عوامل خارجية إما لأهلها أو للحظ. 

الخلاصة: العاطفة جزء لا يتجزأ من التفكير العقلاني والتخلص منها لا يجعل منك شخص عبقري بل معتوه،  والبيولوجيا لست هي العائق أمام المرأة بل المجتمع المعادي لها والتاريخ البشري الطويل الذي كرس تصورات ومعتقدات الخاطئة وحولها، سيكون من الصعب التخلص من تلك المعتقدات التي تحولت إلى مسلمات لكن من الممكن تغيير طريقة استخدام النساء لمهاراتهم ومن الممكن تحويل أعمال الرعاية والأعالة لعمل مشترك بين الرجال والنساء، كذلك من الممكن تفكيك التصورات الخاطئة نحو القيادة النسائية وفصلها عن المفاهيم الذكورية.

——————————

- حالة المريض إليوت مقتسبة من كتاب Descartes' error لطبيب الأعصاب أنطونيو داماسيو


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

البرمجة منتج نسائي استحوذ عليه الرجال

تأملات في الذكاء الاصطناعي

الأسباب الغائبة

أشلاء

هي ...

الأمومة الموحشة

استبداد الذكورية على الرجال