ندبة تتوسط جسدي كنصب تذكاري
قبل أن أدخل العملية كان كل ما بداخلي يرتجف، لا أعلم هل مصدر ارتعاشي برودة المكان أو برودة روحي، كل ما أعرفه أنني للحظة شعرت بتقلص كل الأشياء من حولي، شعرت بمزيج من الخوف والتهديد ليس من الموت بل خوفاً من أن تترك مشارط الأطباء أثر على جسدي، لم أكن سأشعر بالجزع لو كان جسدي بين يديّ فنان فهو سيتعامل معه كقطعة فنيّة نادرة، لكنه بين يديّ جزار بهيئة طبيب كل ما يهمه صحتي لن يهتم بإلحاق النقصان بكمالي، بعد أن استعدت وعي ورأيت تلك الندبة البشعة على بطني شعرت أن هناك من تعبث بهويتي.
تردد صوت بداخلي يتساءل كيف أكون على بعد خطوة من شفا هاوية وكل ما يشغل بالي الجسد؟ هل كنت أفضل الموت على أن احمل ندبة صغيرة لا قيمة لها؟ ماذا لو فقدت أحد أعضائي خلال العملية هل ما زلت سأبقى أنا؟ في اللحظة التي تتساوى الأشياء بالعدم تكشف لنا بواطن الأمور هل كنت أعتقد في تلك اللحظة أن "أناي" تنحصر بجسدي!
منذ أن تولد الواحدة فينا حتى تموت وهي تخضع لعملية الإنسلاخ من بشريتها، فتنمو على أنها جسد جميل ممزوج بالشر، فتكون مغرية في القصائد، فاتنة في الأغاني، مذنبة في الكتب المقدسة، مُدانة بموجب الأعراف والتقاليد.
نتعلم كيف نحب الجسد ونمقته في آن واحد، كيف نقدسه ونخجل منه، فتتشكل هويتنا وتنحصر من خلال الجسد، وكل ما نقوم به لذلك الجسد ليس إلا محاولات بائسة لإضافة قيمة لذواتنا. حاولت إسكات ذلك الصوت وآمنت أن هويتي مرتبطة بذلك الجسد لكن توأمي التي تتشابه معي إلى حد عدم التمييز بيننا وتحمل نفس جيناتي لماذا لا تستطيع أن تكون أنا؟ الجسد هوية غير ثابتة تطرأ عليه تحولات وتغيرات تتعرض أجزاءه للتلف والإستبدال والموت، هنالك ما هو أكثر عمق من الجسد، شيء يجعل كل منا فريد.
إذ لم تكن المرأة جسد فماذا تكون؟
"المرأة نصف المجتمع...هي الابنة والأم والأخت والزوجة والمربية..." إجابات مبتذلة أسمعها كل مرة حين أتساءل فيها عن هوية المرأة، إجابات تشير للأدوار الإجتماعية التي تمثلها المرأة لا لهويتها. لم أستطع أن أرى هويتي تتمثل فقط في دور اجتماعي، إنه نوع من سلب الأنا أشبه بالإستعباد، لا أقصد هنا الإستعباد الخارجي كالسبيّ أو السجن، بل استعباد داخلي كقوة خفيّة تفرض سلطتها على الذات وتخضعها للآخر، لا يعني ذلك إنكاري للهوية الاجتماعية والثقافية بل على العكس حاجتنا للإنتماء للآخر لا تتجزأ عن حاجتنا الذاتية لتأكيد هويتنا. وفي المقابل، الذات البشرية مزيج من الأنانية والإيثار، فتارة تهيمن "أنا" و تتراجع "نحن" فنذعن للأنانية، وتارة تهيمن "نحن" وتتراجع "أنا" فنذعن للإيثار، ما يحدث لذات الأنثوية أنها دائم تقع تحت هيمنة "نحن" مبرمجة على أنها ذات ملائكية خالية من الأنانية، وتخضع قسراً للإيثار وتعتقد أن ذلك الخضوع امتثالاً للفطرة وطبيعة بشرية.
ووفقاً لذلك النمط الأبوي المستحدث للذات الأنثوية السالبة، تصبح رغبات النساء وأهدافهم وأفكارهم ومعتقداتهم ومشاعرهم وتجاربهم لا قيمة لها، حينئذ تصبح المرأة كائن ناقص الإنسانية وهذا أبشع ما تم سلبه من النساء. فيتعاملون معها ككائن غيرعاقل، تشبه الأشياء والسلع والأطعمة والجمادات والحيوانات والآلهة والأساطير تشبه كل شيء في نظرهم إلا البشر.
اليوم و بعد عشر سنوات لاتزال تلك الندبة تتوسط جسدي كنصب تذكاري لرحلة اكتشاف الذات، و مازلت لا أدري من أنا، لكن كل ما أعرفه على وجه اليقين أننّي لست قشرة متبدلة ولا كائن منقوص الإنسانية.
تعليقات
إرسال تعليق