تحليل لتراكمات الثقافية والتاريخية التي ساهمت بانحسار دور المرأة عبر التاريخ
"الطريقة الصحيحة للخلق بالنسبة إلى المرأة - أية امرأة - هي رحمها لا عقلها".
يظن الروائي بيامي أن وجود رحم للإنجاب يتنافى مع وجود عقل ينتج، لم يكن الأول أو الوحيد الذي اعتقد أن هناك علاقة عكسية بين وجود الرحم والعقل، فحتى نهاية القرن 19 كان الطب النفسي يعتقد أن هناك مرض عقلي يصيب النساء بسبب وجود الرحم (Female hysteria) ولا يصيب إلا كل امرأة فقدت زوجها أو رفضت سلطة الرجل. الفقه الإسلامي لم يكن بعيداً عن تلك الافتراضات فهو أيضًا مشحون بالأحكام والتشريعات التي تحمل تصريحات مباشرة لاحتقار المرأة ووصفها بنصف العقل وإشعارها بانعدام الأهلية.
كثيرًا ما تم تبرير الأفعال الذكورية الاقصائية بالاختلاف البيولوجي، وكأن النساء حكم عليهم بالطرد واللعن والإقصاء لأنهن يملكن عضو مختلف عنهم.
لماذا امتلاك عضو مختلف يجعل من الحياة صعبة؟
لماذا يقرر كائن آخر أن يربط قيمته وأخلاقه وشرفه بعضو لا يخصه في جسد آخر ؟
أو لماذا مجتمع كامل يتحولون لكلاب حراسة حول أعضاء نسائهم؟
طوال التاريخ كان الرحم لغز محير للبشرية، ففي الأزمنة الغابرة رفع إلى الألوهية وعبد كالآلهة، وفي أزمنة مظلمة نبذ ولعن وربط بالشر والشياطين، في أزمنة تحول إلى رمز للعطاء والأمومة والتقديس، وأزمنة تحول إلى قيد وعائق أمام وجود المرأة.
لا أظن أن هناك جواب واحد من الممكن أن يكشف الغموض عن ذلك اللغز المحير، لكن من الممكن تتبع حركة تطور المجتمعات ونشوء الأخلاق وفهم كيف بدأ بدهشة وانتهى بمأساة.
في العصور البدائية الوحشية كان الإنسان كائن يتأرجح بين قطبي الرغبة والخوف تحركه غريزة البقاء، لا يحمل سوى براعم الوعي البدائية التي لا تستطيع فك غموض الكون من حوله. كان يعيش في مجتمعات صغيرة تعاونية متنقل بين الأدغال كقطيع الفيلة والغزلان، كانت الغاية الأسمى التي كلف بها هي البقاء على قيّد الحياة مما جعله يشكل أنظمة وقوانين اجتماعية تتناسب مع الظروف البيئة القاسية وشح الموارد.
كان يتم التخلي عن كبار السن كنوع من التكريم ضمن احتفالات وثنية، أو يضحي بالأطفال كقرابين للآلهة، تظهر تلك السلوكيات كنوع من التقديس أو التعبد لكنها لأجل غاية محددة إنقاذ بقية المجموعة بسبب قلة الموارد.
العمل كان يقسم بينهم بحسب طبيعة الجنسين البيولوجية فعلى المرأة جمع الثمار وقطفها مما جعل ذلك يمهد لنساء اكتشاف طرق الزراعة، وعلى الرجل مهمة القنص والصيد وحماية المجموعة، أما عن الجنس فكان مشاع بين أفراد القبيلة لهدف زيادة عدد الأفراد والحفاظ على الجنس البشري من الانقراض لم يكن محكومًا بقيود أخلاقية معقدة.
الأطفال ينسبون إلى أمهاتهم ليسهل التعرف على الإخوة من الأم، وبالتالي يسهل تنظيم عملية التزاوج بين أفراد القبيلة. النسب للأم كان أسهل لأن عميلة الحمل والولادة أمور ماثلة أمام العيان لا أحد يستطيع إنكارها، فكانت الأمومة حق طبيعي قبل أن يكون حق اجتماعي، بينما الأبوية فهي حق اجتماعي لم يظهر إلا متأخر بعكس حق الأمومة.
في تلك العصور البدائية كان يشاهد الإنسان المرأة تحمل وتنجب ولم يكن العقل البشري قادر على تفسير عملية الإنجاب كما اليوم، كانت تعتبر ظاهرة خارقة للطبيعة غير قابلة لتفسير مثل اشتعال النار وسقوط المطر، تلك الدهشة البدائية دفعته لتقديس عملية الإنجاب وألّه الرحم وليس تقديس للمرأة كما يشاع بل تقديس لسبب وجود البشر.
حينما بدأ يتعلم الإنسان كيف يتحكم بالأرض ويطوعها ويفرض سيطرته عليها، وبدأ يدرك أن مهنة الصيد لم تعدّ كافية لتأمين لقمة العيش، فتعلم زيادة الإنتاج من خلال الزراعة وتكديس المحاصيل، تلك الوفرة المادية تتطلب وفرة سكانية هنا بدأ الرجل يفرض هيمنته على أول وسيلة إنتاج بشرية "المرأة". توجد تفسيرات أن ذلك التغيّر مصدره حسد الرجل من المرأة، والغيرة من الألوهية والقدسية التي تتميز بها عنه، لكن أظن أنها تفسيرات ركيكة أشبه بقصص حسد الشيطان لآدم والتسبب بطرده من الجنة، أو نظرية "حسد القضيب" لفرويد تلك التفسيرات التي تستند على خرافات وأساطير، لا على فهم لطبيعتنا.
الرغبة في البقاء والحاجة والمنفعة هي العوامل التي حركت مجرى التاريخ البشري، فحين كان الإنسان يعيش في مجتمع أُمُومِيّ فسر أن بقائه معتمد على بقاء المجموعة مما سنّ قوانين تحفظ بقائه ضمن القبيلة، وحين تمكن من فرض قوته على الطبيعة فسر أن بقائه معتمد على زيادة إنتاجه المادي والبشري وتوسيع دائرة سلطته مما جعله يصنع قوانين تدعم هيمنته، وحين أصبح تزايد أعدادنا يهدد وجودنا بدأ يبحث عن حلول تخفف من الانفجار السكاني .
مع نشوء الحضارات ووفرة الأيدي العاملة وزيادة الإنتاج بدأت تتشكل ملامح النظام البطريركي على أيد رجال متفرغين لمهام التفكير، فلم يعد الرجل ذو الطبقة الأرستقراطية يخرج إلى الصيد للبحث عن قوته، أو يلوث يده التي تكتب بأعمال الزراعة، يوجد تحته حاشية كبيرة من العبيد والنساء والأراضي، ولأن النساء هنّ من يخلقن الأطفال فعليهن تحمل تبعات تلك العملية، أُحيلّت لهن مهام الرعاية كتكفير عن خطيئة الإنجاب.
ونتيجة لذلك بدأ المجتمع يعيد تنظيمه وفقا للسلطة الذكورية، بدأت تُسنّ قوانين تتوافق مع رغباتهم المتحيزة، سحب الرجل النسب من الأم ليضمن أن الوريث هو ابنه الحقيقي، فهو لن يعرف أنه الأب إلا من خلال تقييد جنسانية المرأة. نشأت العائلة التي تتمحور حول سلطة الأب، الأب الذي كان هدفه من إنشاء الأسرة الإكثار من إنجاب الأولاد الذكور لزيادة قوته وسلطته، أما الفتيات فهن صفقات مؤقتة لتوسيع ودعم مكانته الاجتماعية من خلال تزويجهم لمن يتحالف معهم هنا شرعت الولاية في الزواج ليحدد الولي مصيرك الابدي، شرع التعدد ليتيح لنفسه الحصول على أكبر عدد من الأطفال.
سنّ قانون الخيانة الزوجية والزنا ليضمن تقيد المرأة، بدأ يتعامل مع المرأة كجزء من ممتلكاته فكل ما تنتجه يمتلكه، تحولت من شريكته في الإنتاج إلى يد عاملة مجانية في منزله، وأداة جنسية في حال سلبها من غيره يحلو له احتقارها وإذلالها أو حتى بيعها.
فتشريع التعدد للرجل، وتحريم الزنا ورجم النساء، وفرض الحجاب، وإقصاء النساء من الفضاء العام، كل تلك المعتقدات وغيرها ليست إلا انعكاسات لرغبات أنتجتها الآراء السائدة في ذلك الوقت -آراء الرجال- وتحولت من رأي عام إلى أعراف وعادات ترسخت عبر الأجيال لقرون متتالية، ثم غُلفت بالدين لتنال صفة القداسة وتسمو فوق النقد والتمحيص، لتتحول اخيراً إلى ما يظنه البشر الفطرة. مثل ما تم تحويل العمل المنزلي إلى نتيجة طبيعية مرتبطة بالنساء وربطه بالأنوثة وطبيعة الجسد، وواجب ديني تنال به المرأة رضا الإله، وأداة لاضطهاد النساء، في حين كان بالأصل مجرد ضرورة لأجل البقاء.
ما منع المرأة من الإنتاج بعقلها ليس رحمها، بل تلك القيود والأفكار المغلوطة المتراكمة عبر التاريخ، منعًا يلزمها بالدور المقدس والنذر الأبدي الذي يجب أن تتخلى عن كل شيء في الحياة لأجل تحقيقه، لأجل تلك الأعمال المنزلية والتربية ليتفرغ الرجل للأعمال الإبداعية.
يقول نيتشه "الرجل في أوروبا أفسد النساء بجعل أرواحهن حرة وأكثر هسترية وأقل استعداداً لمهنتهن الأولى والأخيرة؛ إنجاب الأطفال"
نيتشة ينطلق من سردية ذكورية، وثقافة أحادية الجنس جعلت من الرجل كائن متمركز، وأن كل ما في الكون مسخر لخدمته حتى النساء، وعندما بدأت المرأة الأوروبية تتحرر هددت مركزيته واختلت قوته. لم يكن ذلك أول تهديد للمركزية البشرية، لقد تعرضت مركزية البشر للتهديد مرتين، المرة الأولى؛ حين أدرك الإنسان أن الأرض ليست مركز الكون بل الشمس وأن كوكبه ليس إلا ذرة صغيرة تسبح في فضاء واسع. المرة الثانية؛ عندما علم أنه ليس مخلوق منزل من السماء ولا سيدًا على الأرض، بل هو كائن تطور من أشكال أخرى من الحياة البدائية. النسويّة هي التهديد الثالث الذي زعزع مركزية الرجل، وأدرك أن حياة النساء لا تدور حولهم ووجودهم ليس خاضع لرغباتهم، وأن الاختلاف البيولوجي لا يخولّهم لامتلاك امتيازات أكثر أو حقوق إضافية.
أنا مؤمنه بالحتمية التاريخية وأننا محكومون بقوة بيولوجية عميقة تدفعنا لنتقدم حتى وإن ظللنا أنفسنا قرون طويلة. مؤمنة أن التقدم البشري مرهون بتصحيح أخطائنا البشرية، فاليوم لم نعد نقيم مراسيم لقتل كبار السن، ولا طقوس تعبدية لتضحية بالأطفال، ولا أسواق شعبية لبيع العبيد ... لا توجد قوانين تمنع ذلك اليوم، ما يمنعنا إدراك البشرية أن تلك الأفعال أخطاء بشرية وليست قيم راسخة.
—————
- الغصن الذهبي، جيمس جورج فريزر، ص ٦٧- ٨٨ .
- أصل العائلة والملكية الخاصة، فريدريك انجلز، ص ١١-٣٠ .
- مقدمة الحضارات الأولى، غوستاف لوبان ، ص ٦٥-٨٤ .
- أصل الأشياء؛ بدايات الثقافة الإنسانية، يوليوس ليبس. ص ٢٧٣- ٢٨٦.
- ملحمة التطور البشري، سعد الصويان، ص ٩٦٣- ٩٨٧.
تعليقات
إرسال تعليق