الجندر وعلاقته بعدم المساواة بين الجنسين

    عندما أنجبت أختي ابنها الوحيد بعد ثلاث فتيات كانت مهمة تنشئته أشق عليها من ولادته. ولد طفلها في عالم مألوف مثالي متكامل لكنه باللون الوردي، وفي شرع البشرية من الجُرم أن تتلطخ أقدام صبي بذلك اللون. فبدأت أختي وزوجها بمحاولة تجنيد الطفل المسكين وانتزاعه من عالم أخواته حتى لا يصبح "فتاة" على حد قولهم، وكأن الأعضاء والهرمونات ستتغير بمجرد تغير لون الملابس، فكان هناك ألوان مجرّمة وألعاب محظورة وكلمات محرمة. نشأ الطفل يلعب متنقلاً بين عالمين متلاصقين، عالم أخواته المألوف الذي يسمح له أن يستأنس به لكن لا يترك آثاره تعلق به وإلا سيحكم عليه بالضلال، وعالم مجهول غريب عنه لم يألفه له قواعد عنيفة، وكلمات قاسية، وممرات وعرة ينبغي عليه أن يعبرها ليثبت استحقاقيته لحمل تلك الكروموسومات.

لم تكن أختي وزوجها ذو تصرفات غريبة ربما سردي هو ما جعلها عملية غير مألوفة، لكنها عميلة اعتيادية تجري داخل الأسر، منذ لحظة الولادة ينطلق الوالدين في عملية بناء الذكورة والأنوثة، وتتحول البيوت إلى مختبرات بشرية ضخمة لصناعة قيم وسلوكيات تتناسب مع جنس كل مولود. يكفي أن تسير في الشارع لترى بوضوح نتيجة تلك العميلة، فالبشرية منقسمة هنا إلى نصفين وكل نصف يلبس ملابس مختلفة يتحدث ويمشي بشكل مختلف عن الآخر، ربما في مجتمعات أخرى سترى هناك ضبابية في التفريق لكن ستدرك أن كل الأطياف المتعددة تصب في نهاية الأمر في لونٍ واحد. المشكلة ليست في الاختلاف أو تعدد الأنماط إنما في ما بني على هذا الاختلاف، ليس الغرض محاولة لإنكار الاختلافات بين الجنسين ولا تضخيمها ولا تهميشها بل رفع اللبس عنها.



    لا بد أولاً من تعريف الجندر والجنس؛ الجنس (ذكر، أنثى) هو يشمل الاختلافات البيولوجية بين النساء والرجال مثل اختلاف بالتركيبة الهرمونية والكروموسوية، واختلاف بالكتلة العضلية، اختلاف شكل ووظائف الدماغ، وتلك الاختلافات ثابتة تولد مع الإنسان ولا يمكن تغييرها. أما الجندر (رجولة، أنوثة) ليست فروق طبيعية بيولوجية وإنما بناء اجتماعي وثقافي تم بنائه وترسيخه عبر التاريخ من خلال المؤسسات المجتمعية يشمل الأدوار والمكانة والعلاقات والمسؤوليات والواجبات، وهو عامل غير ثابت متغير بتغير المكان والزمان ويخضع تكوينه لعوامل شتى.

النظريات والدراسات حول الجندر وعلاقته باللامساواة بين الجنسين غزيرة لا يمكن حصرها في مقال واحد لكن من الممكن حصر بعض الأسباب وأهم النظريات الاجتماعية. 

  • بحسب علماء الأنثروبولوجيا فإنهم يعتقدون أن بداية عملية التقسيم كان سببها اختلاف طبيعة جسد كل جنس عن الآخر، فالنظرية البيولوجية تفسر أن الجندر هو نتيجة حتمية للجنس، ينطلق أصحاب هذه النظرية من أن الاختلافات الاجتماعية والأدوار المتباينة لكل من الجنسين ما هي إلا نتيجة بيولوجية، بررت النظرية أن اللامساواة بين الجنسين تحدث بشكل طبيعي بحكم أن الرجال أقوى جسديا وأكثر ميلًا للنزعة العدوانية وهذا يمنحهم السيطرة بسهولة على النساء. انطلاقًا من تلك الاختلافات البيولوجية بدأ البشر بتوزيع الأدوار والمهام فيما بينهم، كان يتم تعليم الصبي التنافس، المواجهة، الصيد، القتال.. مما عزز مهاراته وصقله، وتتعلم الفتاة الطبخ التنظيف تربية الأطفال العناية بالزوج.. مما جعل مهاراتها تضمحل. التكوين البيولوجي بحدّ ذاتها لا يشكل عائقًا أمام المرأة بل كيفيَّة تفسيره والتعامل معه، البلوغ، الحمل، الولادة، انقطاع الطمث ليس لها معنى في حد ذاتها ولكن الثقافة تعاملت معها على أنها عيوب، بينما تجد عدوانية الرجل لم يتم التعامل معه كعيب بيولوجي بل تم تبريرها وتشريعها، ايضًا يتم التعامل مع هرمونات النساء وكأنها دائمة الخلل والاضطراب بينما ينظر لهرمونات الرجل وكأنها غير موجودة أو ساكنة لا تحدث أي ضجيج، وحين يتعاملون مع الاختلافات بين وظائف الأدمغة يكيلون بمكيالين فتصبح الوظائف في أدمغتهم امتيازات بينما التي في أدمغة النساء لا قيمة لها. المؤلم أن المرأة أمنت أن الجسد الذي تسكنه هو الخطيئة التي تعرضها الظلم وأنه جسد معطوب وبه كل الاختلالات، مثل ما تم إقناع السود لقرون أن المشكلة في لون بشرتهم وليس في الأنظمة الجائرة والمتحيزة ضدهم. لتوضيح الصورة أكثر وكيف يتم استغلال الفروق البيولوجية لتمرير سلطتهم قول الشيخ صالح اللحيدان ليبرر منع قيادة النساء "قيادة المرأة للسيارة قد يضر بالمبايض ومنطقة الحوض مما قد يؤدي إلى إصابة أطفالهن بخلل إكلينيكي".
  • النظرية الثانية هي النظرية الوظيفية، هذه النظرية لا ترى أن التكوين البيولوجي هو المسؤول عن إنتاج تلك الفروقات بل الثقافة، فترى أن الجندر هو نتاج اجتماعي يتم تمريره ضمنياً من خلال عملية التنشئة الاجتماعية، يتم تلقين كل فرد على حسب جنسه سلوكيات وأدوار ومسؤوليات وواجبات وحقوق تحمل في طياتها أيديولوجية معينة. أصحاب هذا الاتجاه لا يظنون أن تلك التقسيمات غير عادلة بل هي حسب تفسيرهم جزء من النظم التي تساعد على الحفاظ على تنظيم المجتمعات. فيرى أوجست كونت أن المرأة تصبح تابعة للرجل من خلال المؤسسات المختلفة وأن ذلك الخضوع والتبعية يساعد على استقرار النظام اجتماعي المستقر بوجود السلطة الأبوية. أكثر حدث يوضح أن الجندر صناعة الثقافة ما حدث لنساء الأمريكيات خلال الأربعينيات والخمسينات من القرن الماضي كان أشبه بعملية غسل الأدمغة. تم إقناع النساء أن الأنوثة تعني البحث عن الزوج والخضوع لأوامره، وأن التعليم مفسد لها فالأنوثة الكاملة لا تتحقق إلا حينما تكون المرأة ساذجة، وأن حلم الأنثى منحصر على البيت وتربية الأبناء، وأن حرية المرأة تتحقق من خلال شراء ملابسها وحاجيات المنزل، وأن كمال الأنوثة يتحقق في العطاء والتضحية والتنازل عن الرغبات الشخصية من أجل تحقيق السعادة للآخرين. بدأ الإعلام يروج لصورة الحلم الأنثوي الأمريكي وإقناع النساء الأمريكيات أنهن بأنوثتهن الكاملة محسودات من قبل العالم، وتم نشر كتب ومجلات لتعلم النساء كيف يصبحن كاملات الأنوثة من خلال تكريس كل جهدهم لزوج، بعدها بسنوات زادت نسب زواج القاصرات وجهل النساء والمشاكل الأسرية والأمراض النفسية لدى النساء.

أحد الأطباء في عيادة مارغريت للأمراض النفسية يقول: "لقد حولنا المرأة إلى مخلوق جنسي ليست لها أية هوية أخرى سوى أن تكون زوجة، هي ذاتها لا تعرف من هي. تنتظر طوال اليوم زوجها ليأتي إلى البيت ليشعرها أنها حية، كم هذا مرعب أن تجلس منتظر ليلة وراء ليلة لتشعر بالحياة"*

  • أما الجندر بحسب نظرية الصراع فهو نظام هيكلي يوزع السلطة والامتيازات لجنس ويحرم الجنس الآخر، ويفسر أصحاب النظرية أن اللامساواة بين الجنسين سببها العامل الاقتصادي الذي هو حجر الأساس لتحقيق السلطة داخل أي مجتمع. نظرية الصراع توضح أن بسب احتكار الرجال للفضاء العام (العمل خارج المنزل) جعلهم أكثر سيطرة وهيمنة على كل الميادين والمجالات مما مكنهم من فرض سيطرتهم وبالتالي إزاحة النساء للفضاء الداخلي (المنزل) لتختزل كل مهاراتها داخله وتصبح منوطة بإتباع الرجل. تلك السيطرة مكنتهم من استخدام الدين والثقافة الفنون والعلم والإعلام والأدب لتوطيد سلطتهم والحفاظ على مصالحهم، وتمرير عدم المساواة بين الجنسين وكأنها حدث طبيعي مقبول وأمر إلهيّ وفطرة بشرية.
    بعد ذلك السرد يمكن ببساطة توجيه الانتقادات للعادات والقيم الثقافية أو اللقاء ألوم على الأجداد والحقب التاريخية التي مضت، أو لعن الرأسمالية أو التحسر على طبيعة الجسد، لكن بغض النظر عن السبب فإن الآثار واضحة وجلية، اللوم لن يعمل إلا على توسيع دائرة الصراع. فالمجتمعات المعاصرة اليوم تحاول التخلص من تلك الآثار ، وتقر بالمساواة والعدالة بين الرجل والمرأة من منظور الجندر، إلا أنه الواقع وبالرغم من تلك المحاولات لا يزال يكرس الاتجاهات التقليدية التي تحدد الأدوار الجندرية بحسب الجنس، لا يزال المجال العام ذو صبغة ذكورية، وإن كان لا يمكن إنكار أهمية التطورات التي طرأت على وضع المرأة السعودية إلا أنها لا تردم الفجوة القائمة بين الرجل والمرأة، نحتاج إعادة النظر في الثقافة السائدة والمفاهيم الموروثة في المجتمع التي تعزز الفروقات بين الجنسين، لابد من تغيير أساليب التربية في فترة الطفولة لتعميم المساواة بين الجنسين، وتفعيل دور الأب ليضمن مشاركة الأعباء مع الأم.

———-

Betty Friedan_The Feminine Mystique ,1963* 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

البرمجة منتج نسائي استحوذ عليه الرجال

تأملات في الذكاء الاصطناعي

الأسباب الغائبة

أشلاء

هي ...

الأمومة الموحشة

استبداد الذكورية على الرجال