بخفة الرقص يعاد تشكيل العالم
حينما كنت في العاشرة قرأت قصة تدور حول رجل يصعد الجبل، ويفرد ذراعيه كالنسر ويضرب الأرض بقدميه كثور هائج، ثم يبدأ الرقص بحركات غير مألوفة، وحين يعود للقرية ويسأله أهل القرية ماذا فعلت فيجيب: كنت أناجي الله !شغلت تلك القصة الغريبة عقلي، بدأت أحاول فك شفراتها المستعصية. الرقص يمارس في أكثر اللحظات طيش ولهو، أما الصلاة تقام في أكثر اللحظات جديّة ووقار فكيف تجتمع؟ تجسد أمامي أول تنافر مريع أشهده في حياتي!
في اليوم التالي ذهبت للمدرسة مرتابة، وكأني رسول يحمل رسالة سماويّة يتوجب عليه تبليغها.أخبرت صديقاتي أن هناك طقس سري للعبادة وجدته في كتاب قديمٍ محظور، وبدأت أقلد لهم حركات الرجل المجنون التي قرأتها وأبتدع لهم حركات جديدة غير مفهومة، شيئًا فشيئًا انتشرت الرسالة، وأخذت أرقص في كل الزوايا، وازداد عدد المؤمنين والتابعين.
أعجبني الأمر وتحول إلى طقسٍ يومي، كل ما علي فعله ضبط إيقاع الرّوح على خطواتي لتتزامن بنشوة ساحرة، أتحرك وفقًا لغريزتي لم يوجد بذهني أي حركات محددة وكأنني رحّال لا يعلم أين الوجهة كل ما عليه أن يثق بحدسه ويكمل الطريق المجهول.
وصلت دعواتي التبشيرية إلى أبواب الجحيم، تم استدعاء أمي من قِبل إدارة المدرسة، ليخبروها أن ابنتها اختطفها الشيطان لتبشر بأمرٍ شركِ وتنشر البدع بين الصالحين!
لم يكن جواب أمي سوى أني طفلة فضولية تعاني من خيال خصب، هي ذات الجملة التي سمعتها من أبي حين أخبرته أن جدي لم يمت بل انتقل ليعيش في حديقتنا كنخلة معوجة، ظننت لحظتها أن الخيال مرضٍ يصيب الأطفال ليتحدثوا بما لا يفقهُ الكبار.
حين عدت للبيت تمت مراسيم طرد الأرواح الشريرة عن عقلي، أحرق أبي كتبي الملعونة وسط نحيب واستغاثات وهكذا أُعلن موت الشيطان. حُرمت علي قراءة تلك القصص المفسدة كما يزعمون واستبدلت بكتب علمية ودينية، توقفت عن الرقص الغرائبي ليستبدل برقص ممل جنائزي، لم أكن أكثر من مُقلدة أفعل ما يفعله الآخرون، بدأت بالرقص كاحتجاج بتحريك أقدامي خارج المسارات المحددة لأعلن مقاومتي لذلك الجمود والتبلد، لكن في كل مرة يتم سحبي وإعادتي من جديد ضمن المسار، اقتنعت أنني لن أجد الله بتلك الرقصة الرتيبة، دفنت تلك الرغبة في قبو الروح ذلك المكان المظلم الموحش الذي نرسل إليه كل ما نريد نسيانه.
بعدها بسنوات في يوم عاصف استوقدت نار في روحي وحررت جسدي من كتمان عقلي، خضعت بمحض الإرادة لسحر الموسيقى، ورقصت بخفة وكأنما اصعد سلالم السماء، ارتعش جسدي كطيرٍ ينفض ريشه من الماء، لأول مرةٍ منذ زمن استعيد تلك النَّشوة المفقودة.
لم أحكِ لأحد عن تلك الرقصة الغامضة، كانت ملاذي عند الضيق، بدأت برحلة إعادة تشكيل العالم من خلالها، ففتشت في السراديب المظلمة والمخارج اللامرئية والمسارات غير الاعتيادية.
جربت أن ارقص في الظلام حتى استأنست وحشته، رقصت عارِية لاستعادة براءة البشرية قبل الخطيئة، رقصت كما رقص أول راقص أوحى إليه الرب، رقصت لاستحضار جنيات إلهامي، رقصت ليتوقف الزمان ويندثر المكان.
بعد كل هذا ربما وجدت ذاتي.
تعليقات
إرسال تعليق