الأخلاق النسوية





    ما دفعني لكتابة هذا المقالة والبحث عن موضوع "الأخلاق النسوية" هي قصة الشيخة/ جوزاء بندر التمياط، تلك السيدة النبيلة كانت من أشهر نساء حائل في القرن الماضي، عُرفت بحكمتها وكرمها ونبلها وقوة شخصيتها، كانت امرأة محبة قوية ومؤثرة في مجتمعها، كان لها مجلسها الخاص جيثُ يجتمع فيه رجال قبيلتها ونسائهم، و يلجؤون إليها لحل مشاكلهم ومساعدة المحتاجين وعتق الرقاب. بعد وفاة زوجها سعود الرشيد تزوجت من فهد بن هذال وحينما أدرك حسن أفعالها وكرمها لدرجة مساواتها له بالنبل بادر بطلاقها، وحينما سئل عن سبب الطلاق أجاب بلهجته "ما يجتمع شيخين في بيتٍ واحد". التعليق المعتادة على تلك القصص "الرجال ما يملى عينهم إلاّ تراب" لكنني لا أريد أن أكتب أو أفكر بطريقة اعتيادية، لذا حاولت أن أفهم لماذا لا نتساوى في الأخلاق؟ 
لماذا هناك قصص تحكي عن كرم ونبل الرجال، بينما النساء يحكى عنهم قصص الحياء والصبر والتضحية بالنفس لأجل الآخر؟ لماذا هناك أخلاق تعتبر فضيلة حين توصف بها النساء لكنها حينما تنسب للرجال تعتبر رذيلة؟ كالحياء والرعاية والمرونة والعطف وغيرها..
أن الأخلاق ترتكز بشكل أساسي على كيفية التعامل مع الآخر، وتجربة الرجل مختلفة كلياً عن تجربة المرأة، فبالتالي طريقة تفكير كل جنس تختلف عن الآخر، وبناء على ذلك تختلف طرق فهمها للأخلاق. فالمرأة ترى الآخر امتداد لوجودها، بينما الرجل يرى الآخر تهديداً لوجوده، تعيّ المرأة أن العلاقة الإنسانية مع الاخر تقوم على الرعاية والحماية والتعاطف والتعاون وفهم احتياجات الاخر وتلبيتها، وتلك القيم الأمومية هي التي ساهمت ببقاء الجنس البشري، بينما الرجل يرى العلاقات الإنسانية تقوم على اتفاق يخدم المصالح المختلفة للمتعاقدين، كل فرد ينظر للحياة من خلال خبرته، فالطرف الأول يرى الحياة نوع من الإعتمادية والتعاون، والأخر يرى الحياة صراع ومنافسة للحصول على ما يريده. ذلك الإختلاف جعل الأخلاق بصورتها التقليدية توضع في حزمتين، الحزمة الأولى مختارة بعناية لتجعل المرأة بمنزلة أقل، وهناك حزمة أخلاقية أخرى مخصصة للرجل ويمنع على النساء الاقتراب منها، لكن لا أحد يتساءل ما هو الأساس الذي تم تصنيف تلك الأخلاق عليه؟ وماذا سيحدث لو تم تبديل تلك الحزمتين أو دمجهم؟ أو هل من الممكن إعادة صياغتها؟
مشكلة الأخلاقيات التقليدية ليست فقط في تصنيف الأخلاق بل أنها عملت على التقليل من شأن المرأة، فهي تبدي اهتماماً أقل بقضايا المرأة واحتياجاتها مقارنة بالرجل، تبالغ في تقدير السمات المذكّرة ثقافياً كالإستقلال والإرادة والسيادة والحرب والموت، بينما تحقّر السمات المؤنثة ثقافياً كالمشاركة والعاطفة والثقة وغياب التسلسل الهرمي والسلام، تفضّل طرق المنطق الأخلاقي “الذكورية” التي تشدّد على القواعد والحقوق، على طرق المنطق الأخلاقي “الأنثوية” التي تشدّد على العلاقات والمسؤوليات والخصوصية. وبالتالي النظام الأبوي ثبتت ركائزه على فضائل النساء التي لا يعطيها قيمة ويحقرها، فحوّل تلك السمات الإيجابية في النساء إلى نقائص، فالرقّة تحولت إلى خضوع، والصبر إلى تحمل الإهانة، الإهتمام تحول إلى انكار الذات، التعاون تحول إلى العيش لأجل الآخرين، التعاطف يعني الإستسلام، فأصبحت المرأة تمنح الرعاية في عالم لا يعطي قيمة للرعاية. ما يزيد الأمر سوءاً أننا نحن النساء أصبحنا ننظر لقيمنا من خلال تلك الصورة النمطية السلبية، تعاونوا ضد ذواتنا لانتقاص خبرتنا الأخلاقيّة و الحط من قيمتها أكثر، حاولنا جاهدين الإنتقال للجانب الأخر، لم نعي ّ أن الجانب الذي نطمح لبلوغه ليس إلاّ علوًا وهمياً مفتعل، و لابد من نزعه بدلاً من تبجيله.
من أهم النظريات الأخلاقية التي أعادت صياغة الأخلاق التقليدية هي أخلاق الرعاية Care Ethics
تعتبر النظرية الأخلاقية الأهم في مدرسة الأخلاق النسوية Feminist Ethics على العكس النظريات الأخلاقية التقليدية التي تركز على العدالة، أخلاق الرعاية تركز على حماية العلاقات، وعلى أهمية تطوير المشاعر مثل التعاطف، والتركيز على احتياجات الآخر، والتعامل مع سعادته على أنها هدف بدلاً من اعتبارها عبء. اعتقدت "هيلدا" أن أخلاق الرعاية ساعدت البشر ليعتنوا بحاجياتهم الأساسية، وليحموا المصالح الضرورية لبعضهم البعض. فقبل ظهور القوانين والعدالة كان السلوك الرعائي موجوداً بين المجتمع، وأن الحضارة لم تكن لتوجد بقواعدها وقوانينها واتفاقياتها لولا الرعاية، بالتالي من الممكن أن توجد الرعاية دون عدالة، لكن العدالة لا يمكن أن توجد دون رعاية. أما ميولت تقول "إذا كان المجتمع يقيد المرأة ويخضعها لسلطة الرجل فهنا أخلاق الرعاية تكون مشوهة ولا تمثل إلاّ إخضاع المرأة لحاجات الرجل والمجتمع. لكن إذا تمتعت المرأة بالمساواة الكاملة مع الرجل، عندئذ تستطيع تقديم الرعاية دون خوف من أن يستغلها الرجل. ومع ذلك، فالرعاية الزائدة عن الحد تعرّض لخطر الذّل، والتقصير في الرعاية يعرّض لخطر الأنانية التي تجعل قلب المرء متحجراً دوماً، فالرعاية المناسبة هي التي تكون جيدة وبتأمل". من الحماقة أن ترتبط أخلاق الرعاية بالنساء، فربط النساء بالرعاية هو بمثابة تعزيز للفكرة التقليدية، والأسوأ من ذلك أن تتحول الرعاية إلى مهمة إلزامية على النساء. أخلاق الرعاية مثل بقية الأخلاقيات لابد أن يلتزم الجميع بها.
إذا كنا لا نزال نفكر بنفس الطريقة التقليدية سنقول "ما يجتمع شيخين في بيتٍ  واحد"، وإن كنا نحاول فهم الأخلاقيات ونعيد صياغتها وننظر إلى ما يصلح منها ونجعل منه مبادىء يبني عليه المجتمع فسنصل إلى أخلاقيات واحدة تلائم كل البشر، ونؤمن أنه من المكن أن يجتمع "شيخين في بيتٍ واحد".



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

البرمجة منتج نسائي استحوذ عليه الرجال

تأملات في الذكاء الاصطناعي

الأسباب الغائبة

أشلاء

هي ...

الأمومة الموحشة

استبداد الذكورية على الرجال