ما الذي يسعدك؟
بدأ حديثه لأول مرة بسؤال "ما الذي يسعدك؟" سؤال يشبه أسئلة أطباء النفس ومطوري الذات، تلك الأسئلة التي لا فائدة منها سوى منح الطبيب دور البطل المنقذ، ليشعر في ختام الجلسة أنه منح طوق النجاة لمريضه وأنار له دهاليز روحه، والواقع أن المريض لا يزال غارقاً بالوحل، متخبط في دوامات قلقه.
لم أكن لحظتها أملك إجابة على سؤاله، لو كان سؤاله "ما الذي يمنحك المتعة؟" لكانت الإجابة أسهل، وكان بإمكاني سرد قائمة طويلة حول أشياء مادية وغير مادية تمنحني المتع المؤقتة، لكن السعادة لا تعني المتعة أو اللذة، ولا تتحقق من خلال إشباع مؤقت لرغبات لحظية.
لا أعلم لماذا أرهقني سؤاله كان مجرد سؤال بسيط من شخصٍ غريب فلما علق بذهني لأيام! سؤاله العابر جعلني أفتح حقائب ذاكرتي أفتش عن سعادتي، كنت خائفة وقلقة ألا أجد شيء!
أتذكر بداية العشرين مرحلة الشغف والحماس في البحث والتعلم، كانت هناك قاعدة سحرية لتحقيق السعادة تتمثل من خلال إحراز أعلى نقاط في الجوانب التالية: الجانب الذاتي؛ المتمثل في (الروح، والصحة، والجسد، والنفس). والجانب الاجتماعي؛ المتمثل في (العائلة، والأصدقاء، والمهنة). ولتصل لسعادة عليك تحقيق الموازنة المطلوبة بين جميع تلك الجوانب. كان الوضع أشبه بلعبة تنافسية سريعة تستند على إحراز أعلى النقاط في كل الجوانب وكل ما يهم هو النتيجة. اليوم أرى تلك التجربة مجرد هراء، ولا تحمل أي معنى، أشبه بلعبة تافهة تعطي نتائج دون أي شعور حقيقي للسعادة.
من ناحية أخرى حين كنت أسترجع تجاربي، لاحظت أنني لم أشعر قط بالرضا التام، دائماً يكون رضاي منقوص، وحالات السعادة قصيرة وعابرة وسريعة، أن حياتي كانت أشبه بالمد والجزر، ومن هنا استنتج أن السعادة مجرد حالة نفسية لحظية تنتج من تقلباتي المزاجية.
لكن لو كانت السعادة بهذه البساطة، لاستطاع الطب تقديم الحل في عقاقير كمكملات غذائية، فتكون مكملات للسعادة. فإذا كانت السعادة لا يمكن إشباعها من خلال المتعة، ولا من خلال الحالة النفسية، ولا من خلال اللعبة التنافسية الساذجة، فكيف يمكن تحقيق السعادة؟
قرأت مرة أن السعادة تقترن بمعنى الحياة،لكن هذه الحجة ستقودني لشيء آخر، لمعنى الحياة وارتباطه بالسعادة -وهذا حديث مختلف- لكن تساءلت هل معنى الحياة عند الفرد سينعكس أثره على مفهوم السعادة لديه؟ هل لا بد من أن يكون لديه معنى للحياة حتى يكون سعيد؟
في رواية "تلك العتمة الباهرة" علق في ذاكرتي جزء غير مهم لكنه يفسر كيف أن بعض الأمور العادية تكون رمزاً للسعادة، حين كان السجين في أرذل مراحل حياته ويتعذب بالسجن كان كل ما يتمناه أن يستيقظ ويكون أول ما يستقبله طعم معجون الأسنان في فمه ورائحة الشامبو بجسده! لحظتها أثار دهشتي كيف يتمنى شي تافه يومي روتيني لا قيمة له وهو في وسط التعذيب الجسدي والنفسي!
استرجعت كذلك الفترة اللي تعمقت بتعلم اليوغا، كان من ضمن ما تعلمته الامتنان. الامتنان هي اللحظة التي يتوقف فيها الزمن، وتبدأ بتأمل الأشياء البسيطة اليومية التي حدثت خلال يومك لتمتن لها، مثل طعم المعجون اللاذع في فمك، ملمس كوب دافئ في الشتاء، رائحة الهواء المشبعة بالمطر، أو قشعريرة جسدك من برودة الجو لتذكرك أنك حي، أو حتى تستشعر الهواء وهو يسري ببطء داخل جسدك أثناء التنفس. كنت بعد كل درس يوغا أشعر بحالة من النشوة والخفة، اعتقدت وقتها أن السبب يعود لتمارين اليوغا.
والحقيقة أن تلك الأشياء البسيطة الخفية تراكمت داخلي ونمت، تلك اللحظات واللذات البسيطة المؤقتة تكثّفت وصنعت صرح من الرضا والسلام بداخلي.
ربما لا نلاحظها حين ننظر بصورة شاملة لأنها لحظات عابرة خفيّة، لكن تلك التجارب البسيطة المتراكمة جميعها تعمل كخيوط مترابطة، لتكون نسيج متين من السعادة بداخلك، ولحظة الامتنان أشبه بالتقاط صورة لها، فتجعلك تركز على تدفق وتراكم تلك اللحظات.
قلت في البداية إنه من الصعب سرد قائمة حول الأشياء التي تمنحني المتع المؤقتة لأنها ليست سعادة، لكن أعتقد كنت على خطأ. تلك التراكمات الصغيرة التافهة هي السعادة وربما هي أيضا ما تمنح الحياة معنى وقيمة، ربما كل ما نحتاجه هو التوقف للحظات والنظر داخل تلك الشقوق الضيقة للحياة.
تعليقات
إرسال تعليق