العبثية الفاخرة
كنت أشاهد لقاء لشخصية نسائية ناجحة في العقد الخامس، تحكي قصة ابتعاثها في وقت كان يحرم على النساء حتى دخول المدارس الابتدائية، بدأت بسرد كيف ساهم أبيها العظيم في نجاحها، كيف وقف أمام القبيلة وأئمة كبار العلماء ليسمح لها بالابتعاث وليس فقط في نيل التعليم الأساسي، لم تكن فرادة القصة ما شدني للكتابة، فجميع قصص النجاح النسائية التي أسمعها من مجتمعنا تكون بنفس النمط المتكرر، الذي يذكر فيه دور الأب كشخصية محورية في تحديد مسار ابنته المهني وحتى الاجتماعي.
ما كان يشدني هي تلك الأسئلة التي غمرتني أثناء المشاهدة، لو كانت شخصية الأب مختلفة هل سيؤثر ذلك على مسار مستقبلها؟ ماذا لو لم يدعمها، ماذا لو وقف مع تقاليد القبيلة، ماذا لو كان الأب يقدس السلطة الدينية حينها؟ هل كنا سنعرف أو نسمع عنها؟ ماذا لو أخيها رفض ابتعاثها وقرر تزويجها، هل ستكون شخصية عظيمة أم كبقية النساء اللاتي يركن على رفوف الحياة ويطويهم مد النسيان.
بعد اللقاء بأيام وصلت لي الإجابة من خلال حادثة شنيعة لفتاة تدعى"صباح" أشعلت سيرتها تويتر لأيام، كانت صباح بشهادة من حولها فتاة ذكية ولها مستقبل مشرق لكن بمحض الصدفة وعشوائية الحياة مُنحت إخوة كأخوة يوسف، فقتلوا أحلامها وألقوا بها في بئر النسيان.
لو تم تبادل الأدوار وكانت صباح ابنة لتلك العائلة السابقة هل كان سيكون مصيرها النسيان أم الخلود؟
على تلك الحادثتين يطرح تساؤل مهم هل التميز والإبداع في النساء هنا يكمن في ذواتهم أو لمن ينتمون؟
أنا على دراية أن هناك عوامل بيئية واقتصادية وسياسية واجتماعية تحد من قدرة الرجال على الإبداع والنجاح لكن مع النساء في الشرق الأوسط الموضوع أكثر تقييداً وتعقيداً.
ما يحدث لنا نوعًا من العبثية الفاخرة، لا يهم كم نسبة ذكاء المرأة، لا يهم مقدار الجهد المبذول، لا يهم كم تملك من المقومات والسمات التي تساعد على نجاحها، كل ما يهم أن تمتلك عائلة تدعم قراراتها، والمثير لسخرية أننا لا نختار عائلاتنا ولا نساهم حتى في تشكيل تلك الروابط التي قد تتحول إلى أغلال.
ما أريد قوله هنا أن تلك النماذج الناجحة التي تسرد بالرغم أنها رائعة، لكنها لا تساعد النساء، بل تكرس من الصورة النمطية بأنها امرأة عالة، تحتاج لمن يساعدها على تحقيق أحلامها. إنها تأكيد وامتداد للولاية على المرأة أو ربما أن الولاية لم تسقط إلا بشكل بيروقراطي، أما اجتماعياً فهي لا تزال قانون ساري المفعول.
بالإضافة إلى أنني أريد تسليط الضوء على النساء اللاتي لم تكن الحياة سخية معهم لتمنحهم آباء وأمهات داعمين. نساء يتم تغذية طفولتهن بأن حياتهن ليست ملك لهن، وكل ما يحدث فيها لا بد من كشفه للجميع حتى لسابع جار الذي له الحق في تقديم اعتراض على وظيفتك أو لون حجابك.
نساء لا يملكن رفاهية الاختيار، ولا حق تقرير مصيرهن المهني والاجتماعي، الشيء الوحيد الذي أخذوه هو نتائج قرارات أهاليهم التعسفية، نساء يتم التلاعب بأقدارهن وتجميدها وكأنها معاملات مهملة في درج موظف فاسد.
في هذا الجانب المظلم المنسي تتعلم النساء قتل الرغبات كوسيلة للنجاة، تتعلم عيش حيوات سريّة تمنحهن شيء من الخلاص المؤقت، يتعلمن المشي بحذر في حقول ملغمة بقوانين اجتماعية وثقافية تحد من قدرتهن على السير. نساء لا حول أعناقهن حبال، ولا في أيديهن أصفاد، ولسن محبوسات في زنزانات، لكنهن ممنوعات من الحركة، منتزعات الحق في إتخاذ القرار باسم قوانين لا صحة لها.
أعلم أنه ستخرج أصوات معارضة لتقول تهدمين "الروابط الأسرية المقدسة" أنا فقط أتساءل على أي أسس بنيت تلك الروابط الأسرية؟ على ماذا نحافظ على خرابات تسمى أسر وفي باطنها يولد القبح وينتج الدمار. أسر تقذف الخوف في قلوب النساء، تحول أرواحهم لهياكل من شدة احتياجهم للعيش بأمن، أسر خالية من فرص النمو الصالحة، أسر طفيلية قائمة على استهلاك أعمار وطموحات النساء.
لا أؤمن أن التغيير والتمكين يكون من خلال سرد القصص من جانب واحد، أرى التمكين يتم من خلال تحرير مصير الشخص وقراراته من أي سلطة حتى ولو كانت سلطة العائلة، التمكين يتم في حال أزيلت كل العوائق دون استثناء، وليس من خلال ترك مصير الإنسان تحت رحمة ورغبات عائلته وقبيلته.
تعليقات
إرسال تعليق