المشاركات

الأسباب الغائبة

صورة
           كان ينبغي علي قبل الكتابة أن أقيد أشباح ذكرياتي حتى يتسنى لي الحديث بشكل موضوعي، و كان لابد أن أخمد كل مشاعر الغضب والألم بداخلي، لكن عوضًا عن ذلك استحضرت أشباحي ودموعي لترافقني طوال رحلة الكتابة، فلم أرغب بأنّ اقف بمعزل عن الضحايا وأنا جزء منهم، أعرف مقدار الألم والخوف والرعب الذي يسكن بداخل كل امرأة تعرضت للتحرش الجنسي جراء تكذيبها أو ترهيبها أو تهديدها، أعرف أن هناك الكثيرات ممن تعرّضن لتحرّش و التزمن الصمت بسبب الخوف، وأعلم أن الأمر لن يُنتزع بشكل جذري بمجرد سَنّ القوانين، فالتحرّش الجنسي ليس شيئًا يحدث فقط بسبب رغبة عابرة يمكن إيقافها بشكل مباشر وسطحي، بل فعل ينطوي بداخله تاريخ طويل من التراكمات لاحتقار وإذلال المرأة مدفوعٌ باختلال القوة وانعدام المساواة بين الجنسين.       ربما يظن البعض أنه نوع من المبالغة حين تصرح بعض النساء أن جميعهن قد تعرضن لمحاولاتٍ عديدة من قبل الرجال لانتهاك اجسادهن واختراق خصوصياتهن، ولكن يصبح الأمر مفهومٌ بالنظر إلى طبيعة العلاقات لدينا التي لا تزال تدار بأسلوب "الطريدة والصياد" أو بالنظر إلى كيفية تعاطي المجتمع مع قضايا التحرّش،

اغلق باب محرابك متى ما أردت

صورة
      عندما حاولت البحث عن كلمة "تسامح" في  محرّك قوقل ظهرت لي بمعنى شمولي؛ التسامح السياسي، الفكري، المذهبي.  جربت كتابة نقيضها "اللاتّسامح" ظهرت لي بمعنى رفض الآخر، الكره، العنف، التعصب بأنواعه أظن أن تلك مراوغةٌ في المعنى، قبول الآخرين وقبول الاختلاف ليس تسامحٌ كما هو شائع. فالتسامح  يُبنى على ضرورة وجود خطأ، طرف مذنب وطرف يعفو ويصفح، أي أن هناك طرف يملك حق السلطة في منح المغفرة من عدمها، أما القبول لا يشترط تلك الضرورة، فالاختلاف ليس خطأً يتوجبُ تكفيرهُ، وعندما تقبل وجود الآخر المختلف فأنت لست في موضعِ السلطة. القبول يختلف عن التسامح أنه أشبه بعلاقة الحُبّ بالاحترام، فأنت لست مجبر على حُبّ الجميع -لن تستطيع حُبّ الجميع بأيّة حال- لكنك مجبر على احترامهم، فأنت مع الآخر المختلف لست متسامحًا بل متقبل. لا أريد الحديث عن تقبُّل الآخر، فقط أريد توضيح الفرق بين التسامح والقبول، ما يهمني هنا هو التسامح أحاول حصره في نطاقه الضيّق. التسامح يتيحُ لك امتلاك سلطةٍ على الآخر وتلك السلطة تتشكّل لديك بعد أن يلحق الآخر بك ضرر، فأذيتك للآخر تفتح له منفذ سلطةً عليك. لنغلق ذلك المنف

الأمومة الموحشة

صورة
   "ولادة الطفل تعني موت والديه" هيغل        لا نتحدث كثيرًا عن الوجه البشع للأمومة، نحاول إخفائه بالقناع المقدس التقليدي أو بالصورة الحديثة المزركشة بالعلم، نتجاهل عمدًا السراديب المظلمة للأمومة، نقذف الأمهات داخلها ونتركهن يخضن صراعاتهن وحيدات ومن حولهن كائنات ملائكية صغيرة تمتصهن بشراسة مرهفة. الأمومة التقليدية: عندما نجرب إزالة القناع المقدس للأمومة سنجد خلفه أمهات منهكات يدورون داخل دوامات من الإحباط والقلق دون إفصاح، يواجهن علاقات متوترة مع أطفالهن ولا يستطعن البوح بها، لأن المجتمع حكم على الأمومة بالغريزة القائمة على الحب اللامشروط والتضحية اللامحدودة، وأن الأم لا بد من أن يخلو قلبها من كل المشاعر الإنسانية السلبية.  سنعثر على أمهات يتعاملن مع الطفل كمشروع خاص تملكه، تثقله بكل رغباتها وأحلامها وأخطائها وعيوبها، تستلهم قيمتها من خلاله ولا تفصله عنها ككيان مستقل بل تظن أنه امتداد لوجودها، فهي لا تكتفي بالأنا الخاصة بها ولا ترى لوجودها غاية سوى من خلاله، فتنذر نفسها لأجله بكل حب كما أخبرها دينها وثقافة مجتمعها، وحين لا يحقق الابن أو الابنة أحلامها يصبح رمزًا للعقو

استبداد الذكورية على الرجال

صورة
     منذ أن بدأت اكتب في النسوية، وتركيزي كله منصب على فهم الواقع والمشاكل المحيطة بالمرأة من خلال فهم المرأة، كنت أبحث عن الإجابات في كتب النسويات والنظريات النسوية، أو من خلال الاحتكاك بالنساء والسماع منهن، لكن منذ فترة توقفت وبدأت أفكر بأنني طوال الوقت أبحث في نفس المنطقة التي تبحث فيها غالبية النساء، ربما الإجابة في المنطقة الأخرى في الوكر المحرم علينا نحن النساء الاقتراب منه، ربما من كان جزء من المشكلة هو ايضاً يشكل جزءٍ من الحل. قررت أشمر عن ساعدي وأتوغل في وكر الذكورية لعلي أطلع على فردوسهم الموعود، فلطالما تم تصوير الذكورية في أذهاننا على أنها جنة الرجال وجحيم للنساء، اتفق مع الثانية لكن مع الأولى لدي شك هل حقًا تبدو لهم كالجنة أو هي جنة لدى القلة منهم، أو ربما هي كجنة الأديان مكان يسكن في المخيّال البشري بينما في الواقع لا يوجد إلا الجحيم للجميع. بدأت بسؤال من حولي، وعبر الانترنت. ما ضرر النظام الأبوي عليك كرجل؟ "اعتقد مشكلة الذكورية الأزلية هي القوالب اللي تضع فيها كل جنس. فأنا كرجل يجب أن أكون على الدوام القوي الشجاع القوَّام طوال الوقت. وهذا بحد ذاته مسؤولية غير عادلة،

بخفة الرقص يعاد تشكيل العالم

صورة
  حينما كنت في العاشرة قرأت قصة تدور حول رجل يصعد الجبل، ويفرد ذراعيه كالنسر ويضرب الأرض بقدميه كثور هائج، ثم يبدأ الرقص بحركات غير مألوفة، وحين يعود للقرية ويسأله أهل القرية ماذا فعلت فيجيب: كنت أناجي الله ! شغلت تلك القصة الغريبة عقلي، بدأت أحاول فك شفراتها المستعصية. الرقص يمارس في أكثر اللحظات طيش ولهو، أما الصلاة تقام في أكثر اللحظات جديّة ووقار فكيف تجتمع؟ تجسد أمامي أول تنافر مريع أشهده في حياتي! في اليوم التالي ذهبت للمدرسة مرتابة، وكأني رسول يحمل رسالة سماويّة يتوجب عليه تبليغها. أخبرت صديقاتي أن هناك طقس سري للعبادة وجدته في كتاب قديمٍ محظور، وبدأت أقلد لهم حركات الرجل المجنون التي قرأتها وأبتدع لهم حركات جديدة غير مفهومة، شيئًا فشيئًا انتشرت الرسالة، وأخذت أرقص في كل الزوايا، وازداد عدد المؤمنين والتابعين.   أعجبني الأمر وتحول إلى طقسٍ يومي، كل ما علي فعله ضبط إيقاع الرّوح على خطواتي لتتزامن بنشوة ساحرة، أتحرك وفقًا لغريزتي لم يوجد بذهني أي حركات محددة وكأنني رحّال لا يعلم أين الوجهة كل ما عليه أن يثق بحدسه ويكمل الطريق المجهول.  وصلت دعواتي التبشيرية إلى أبواب الجحيم، تم اس

الجندر وعلاقته بعدم المساواة بين الجنسين

صورة
    عندما أنجبت أختي ابنها الوحيد بعد ثلاث فتيات كانت مهمة تنشئته أشق عليها من ولادته. ولد طفلها في عالم مألوف مثالي متكامل لكنه باللون الوردي، وفي شرع البشرية من الجُرم أن تتلطخ أقدام صبي بذلك اللون.  فبدأت أختي وزوجها بمحاولة تجنيد الطفل المسكين وانتزاعه من عالم أخواته حتى لا يصبح "فتاة" على حد قولهم، وكأن الأعضاء والهرمونات ستتغير بمجرد تغير لون الملابس، فكان هناك ألوان مجرّمة وألعاب محظورة وكلمات محرمة.  نشأ الطفل يلعب متنقلاً بين عالمين متلاصقين، عالم أخواته المألوف الذي يسمح له أن يستأنس به لكن لا يترك آثاره تعلق به وإلا سيحكم عليه بالضلال، وعالم مجهول غريب عنه لم يألفه له قواعد عنيفة، وكلمات قاسية، وممرات وعرة ينبغي عليه أن يعبرها ليثبت استحقاقيته لحمل تلك الكروموسومات. لم تكن أختي وزوجها ذو تصرفات غريبة ربما سردي هو ما جعلها عملية غير مألوفة، لكنها عميلة اعتيادية تجري داخل الأسر، منذ لحظة الولادة ينطلق الوالدين في عملية بناء الذكورة والأنوثة، وتتحول البيوت إلى مختبرات بشرية ضخمة لصناعة قيم وسلوكيات تتناسب مع جنس كل مولود. يكفي أن تسير في الشارع لترى بوضوح نتيجة تلك ال

التفاهة جوهر الوجود

صورة
  "التفاهة هي جوهر الوجود" أخر جملة ختم بها كونديرا كل أعماله. لتتخيّل العالم كما تخيله ميلان كونديرا حفلةً ضخمةً من التفاهةِ، الجميع مدعوُّ للحفلة من عظماء التاريخ، العباقرة، الفلاسفة، الحمقى، الطّغاة، وحتى المشرّدين والمهمشين، والصعاليك والمجانين. يتظاهر الجميع بأن الحفلة لا تنتهي، كل الأحداث تتخذ صورة العبث اللانهائيّ.  المقاعد الأولى ستكون من نصيب ملاك اليقين متلحفين معاطف العقول، يسطعون كنجومٍ تحت هالة الأضواء، أولئك الذين يسعون لترويض العقول كما تروض الحيوانات، يختلقون قضايا وهميّةً لِيثملُون أيّامٍ وسنواتٍ عليها.   يجلس خلفهم حَفنةً من الطفيليين والانتهازيين، يستغلّون كل ما يقوله ويكتبه من سبقهم، يقتاتُون على ما يبصِقُونهُ ذوي المقاعد الأولى،يشربون ما تبقّى في الكؤوس، يدورون في زوبعاتِهم المصطنعة، وحين يصابون بالدّوار يلعنون الوعي.  بقية المقاعد تتكدس بالبسطاء اللامبالين، والحمقى السعداء. عند الأبواب يقف أولئك الذين يرغبون بالخروج مبكرًا  لانعدام رغباتهم في الاستمتاع. بين الزوايا وتحت الظلال يقبع شاردِي الذهن المنهمكين في طحن الأفكار، يتحسسون من الأضواء والمقاعد اللّام