امرأة قوية
حينما أسمع "امرأة قوية" يقفز لذهني ذلك المشهد الصامت المتسرب من الطفولة لامرأة مسنة بملامح قاسية يستند ظهرها على الحائط، منطفئة تمامًا كما لو أن الحياة قررت أن تتوقف بداخلها لتتركها جسد متصنم يحدق في الفراغ.
جدتي كانت أكثر البشر صلابة وقوة، كان أبي وأعمامي يخبروني بقصصها التي ظننت أنها حكايات خيالية، فجميع النساء في ذلك الوقت لم يكونوا مثلها، وحين أتساءل يتكرر ذلك الجواب "جدتك رجال" ينسبونها إلى الرجال حينما يصفون قوتها، كان أبي وأعمامي يشاهدون نسائهم وفتياتهم كنساء لكن جدتي تخرج من تلك النظرة، إنها أقرب لمخلوق أسطوري.
امتد الأمر لكل من يعرفها ويشاهد أثرها على ملامحنا، أتذكر ذلك المسن من أقاربها في العزاء بدأ يسرد لنا قصصها في صباها حين حملت البندقية لتقاتل مع الرجال، كيف أنها في أحد الأيام حين غدر بهم أحد قطاع الطرق ولم يكن معها سلاح أخذت عمود الخيمة لتدافع به. وذلك الآخر الذي يخبرنا أنها كانت كل يوم تخرج مع أطفالها لمدرستهم وللمسجد وتحرص على العودة بهم إلى المنزل، وكيف أنها تقف مع العمال في بناء منزلها وتشرف عليه بنفسها ولم تطلب المساعدة من أحد، كنت أشعر أنهم يتحدثون عن امرأة بلغت من القوة إلى درجة أنها فرضت ذكرها وحضورها، أتذكر في تلك الحارة القديمة في بيتها العتيق كنا ننسب لها، كان الأمر يزعج أخي وأبناء عمومتي، لم يكن يزعجني أن يسقط اسم أبي سهواً وأُنسب لجدتي.
لم تكن جدتي امرأة تقبل وترضى بأي رجل مثل جميع النساء في جيلها، لقد تزوجت وتطلقت كثيرًا، كانوا يصفونها بالعنيدة وأنها صعبة المراس، ففي صغرها رفضت الزواج أول مرة وحين أُجبرت هربت لجبل قريب منهم واعتصمت به يومين ولم تعود حتى أعطوها أهلها وعد أنها لن تتزوج، لكن ذلك الوعد كُسر لتتزوج من رجل لم تستطع العيش معه وحين ضربها هجرته مباشرة ولم تقبل أن تبقى معه ليلة واحدة، لم يكن من عادة النساء الإعتراض على العنف حيث يُقبل به وكأنه أمر حتمي للزواج، لكنها لم تقبل أن تُمس كرامتها فقررت أن تخلعه.
في ذلك الوقت الخلع من الكبائر، أخذت أطفالها ليلاً وخرجت وحيدة من قريتها هرباً للرياض ومباشرة ذهبت للمحكمة واقترحوا عليها الصلح لكنها رفضت وأصرت على الطلاق، كانت الأرض و"الحلال" لها وليس لزوجها انتزعت حقها بقوة وأخذت أطفالها في وقت كان من المستحيل أن تبقى الحضانة للأمهات. استقرت مع أطفال في مدينة غريبة عنها، ذهبت للسوق لتبيع ما تملك وتؤسس لها حياة جديدة، هنا لوحدها. نجحت ببناء بيت جديد لتستقر به وألحقت أبناءها بالمدرسة، كانت امرأة قوية قاتلت لأجل مستقبلها وكرامتها ودافعت عن حقها، لم تنتظر من أحد أن يساعدها على الوقوف.
طوال طفولتي كنت أتمنى لو حظيت بجدة أكثر حنان مثل جدة ابن الجيران، لم أحب جدتي ولا أتذكر أن أحد من أبناء عمومتي يحبها، كان الشعور متبادل بيننا فهي لم تفضل أي حفيد منا، لم نكن نمثل لها سوى زمرة كائنات غير مكتملة النمو كل ما يجيدون فعله هو الأكل والبكاء، جيل رخو فاشل عديم القيمة! كانت مهمة إلقاء التحية عليها كل صباح من أشد المهام صعوبة في طفولتي، كنت أنسل كشبح صغير واجلس بالقرب منها ولا تعيرني أي اهتمام، كان العالم بنظرها مشهد لا يعنيها، تستمر بثبات تحدق في الفراغ وأستمر أنا بدوري في تأمل تفاصيل وجهها محاولة إثبات صحة نظرية أبي وأعمامي "جدتكم رجال وليست امرأة" كان الصمت لحظة حميمة مشتركة بيننا، ونبقى في ذلك الصمت المقدس حتى يعكره خطأ طفولي كأن يدوس أحد أبناء عمومتي سجادتها أو يصدر صوت خافت فتحل علينا الدعوات كالسحب وتنهال الشتائم كالمطر. بعد فشلي بمراقبتها أقنعت نفسي أنها كانت تملك طريقة سحرية لتتحول إلى صنم ثم تعود لطبيعتها حين نغادر الغرفة، أخبرت ابنة عمي أن ما يقوله الكبار عنها مجرد أساطير، هي ليست سوى امرأة غير مبالية صامتة مملة، أو ربما تشعر بالضجرعندما تنهي مغامراتها فتتحول إلى "أبو الهول". لم أدرك وقتها أنني أقف أمام روح محترقة لم يبقى منها سوى الرماد.
اليوم أنا أفهم تلك الهالة الغامضة التي كانت تحيط بها وتعزلها، أفهم كيف أن المرأة حين ترفض القوالب المسبقة تُنبذ وتُسلب روحها، أفهم كيف تحترق الروح وتتوه في دخان المعارك والثورات التي تخوضها. أدرك في أي مرحلة بحياة جدتي تشكلت بتلك الصورة الصامتة المنطفئة لأنني اليوم أنطفئ مثلها، أشعر أن الحياة قررت أن تنسحب من داخلي، لم أرغب أن أنطفئ مبكرًا، كنت أهرب من الانطفاء، كنت أهرب من ذلك المشهد العالق بطفولتي، لكن كل جهودي العبثية للهرب ذهبت سدى. روحي احترقت وأنا أقاوم تلك الحياة العادية المعدة مسبقاً لي، لم يبقى مني بعد حروبي سوى جسد محبوس في حياة لا تخصه، لقد زهدت بالسعادة، بالعلاقات بالحب، بالصداقة، بكل صلة تربطني بالعالم الخارجي. إنني أتحول إلى "أبو الهول".
تعليقات
إرسال تعليق